تم النشر بتاريخ 25 نوفمبر, 2022
في ال١١ من ابريل ٢٠١٩ اعلن سقوط البشير .
كان السقوط الداوي ثمرة انتفاضة شعبية منذ ال١٩ من ديسمبر ٢٠١٨ انقلب العسكري برهان عبدالفتاح كأسلافه ابراهيم عبود وجعفر النميري والبشير الذين قادوا انقلابات عسكرية ضد الانتفاضات الشعبية .
تقوم وتتأسس شرعية الحكم السودان منذ اكتوبر ١٩٦٤ على الانتفاضة كانت الانقلابات المتتالية بمثابة تمرد ضد الشرعية الديمقراطية،وقطعا للسياق التحرري والحكم المدني .
كان انقلاب البرهان وحميدتي والكباشي قادة جيش البشير ضد سيدهم البشير هو بمثابة انقاض للحكم العسكري والجبهة القومية الاسلامية التي جاء منها البشير ابتلع بعض اطراف ( اعلان الحرية والتغيير ) الطعم وتشاركوا مع البرهان وحميدتي والكباشي في لعبة اقتسام الحكم . احتفظ العسكريون بالمجلس العسكري بينما شكل المدنيون حكومة برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك هيمن العسكريون على السلطة وواصلوا قمع الاحتجاجات المدنية واستمرار السيطرة على الموارد الاقتصادية والاستقواء اكثر فأكثر بالقوى التقليدية السودانية وبعض الجبهات المحلية المتمردة مستنجدين بالقوى الاقليمية والدولية وتحديداً الامريكان والاسرائليين والعربية السعودية التي تستأجر بضعة آلاف من الجنجويد للقتال في اليمن ولحماية حدودها .
انقلب البرهان على حلفائه المدنيين منذ اعلان الحرية والتغيير محملاً اياهم الاخفاق في حل الازمة الشاملة ووقف التدهور الشامل في مختلف مناحي الحياة وربما اعتقد العسكر انهم لم يعودوا بحاجه للتحالف مع مدنيين غير قادرين على وقف الاحتجاجات المتصاعدة.
خروج مجموعة اعلان الحرية والتغيير ( المجلس المركزي ) أكد أو بالأحرى عرى حقيقة سيطرة العسكر أعداء الانتفاضة والمسائلون على جرائم الحرب في دارفور وعموم السودان وعن مذبحة المعتصمين أمام القيادة العامة ٦ يونيو ٢٠١٩ وكان اختطاف رئيس الوزراء حمدوك واعتقال وزرائه شاهد زيف التحالف واكذوبة مدنية الحكم.
الحكم المدني لم يستقر منذ الإستقلال ١٩٥٦ بسبب جهويته وحزبيته الطائفية الضيقة وصراعاته التي تدفعه للتحالف مع العسكر المنقلبين دوماً والمعاديين للديموقراطية والحياة المدنية والحريه والعدل الاجتماعي والتطور .
خطيئة القيادات العسكرية الاتيه من الموروث الإسلامي والإمتداد العربي الانفراد بالقوة والغلبة وعدم الاعتبار والإحترام الكافي للتنوع والتعدد وامتداد السودان وتداخله بمحيطه الافريقي ووجود هوياتِِ بيئة قومية ودينية ولغوية لم تأخذ بعين الاعتبار منذ الاستقلال وهو مما أدى إلى انفصال الجنوب .
ربما كان الزعيم الجنوبي جون قارانق زعيم الجبهة الشعبية من الزعامات الاكثر إدراكاً لأهمية الوحدة السودانيه وفهماً لطبيعتها وتمثلاً للتنوع والتعدد الأكثر غنى وتفتحاً .
الانتفاضة ضد القيادة العسكرية الخارجة من ( زغن ) البشير ومعطف الجبهة القومية الاسلامية هي الإنتفاضة ضد حكم الجبهة والبشير اللذان وإن انشقا إلا أن جوهر سلطتهما ظلت هي هي .
ربما ادركت مجموعة تجمع المهنيين السودانيين الأحزاب السياسية والشباب المستقلون أن تشكيل لجان المقاومة في عموم مدن وقرى واحياء السودان هي الضمانة الحقيقية لإنتصار الانتفاضة وإخراج العسكر من الحكم وقيام حكم مدني ديمقراطي يعبر عن الإرادة الشعبية لكل السودانيين بمختلف جهاتهم وانتماءاتهم ومعتقداتهم والوانهم والسنتهم .
والسؤال الاهم هل يدرك جماعة اعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي) ماقاله العلامة ابو حيان التوحيدي قبل مئات السنين أن تجربة المجرب خلل في العقل ونقص في التجربة خصوصاً وتجربتهم الاولى قد انتهت بإزاحتهم ومقتل مايزيد عن مائتي قتيل .
الحرب ضد الجنوب قوة عضلات العسكر وأدت إلى الانفصال والحرب ضد دارفور و النيل الازرق و النوبة مصدر استثواء العسكرة.
ايران و شرعية الحكم
في بداية الثلاثينات من القرن الماضي بدأ نشر نصوص من كتاب “تنبيه الامة و تنزيه الملة للعلامة المرزا محمد حسين النائيني . يتناول المؤلف قصة ولاية الامام في الغيبة الكبرى، وولاية الفقيه التي مثلت الفصل بين نيابة الامام وبين سلطة الدولة التي دعا اليها كبار علماء الشيعة في منتصف القرن السادس عشر .
الدعوة لولاية الفقيه قبل بضعة قرون كانت انقاذا للتشيع في ايران ؛ لأنه خلص الشيعة من قيد انتظار الامام، و لكن هذه الدعوة في العصور الوسطى تجاوزها الشعب الايراني في مطلع القرن العشرين عندما تبنى الشعب و علماء شيعة دعوة المشروطية اي الدستور الداعي الى ولاية الامة بدلا من ولاية الفقيه و من باب اولى ولاية الامام الغائب
قرأ افاضل علماء الشيعة و السنة معا ان الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني او انهما صنوان ابوهما التغلب و الرئاسة، كما يقول الباحث رشيد الخيون في كتابه ” المشروطة و المستبدة”
و هو ما يناقشه باستفاضة العدو الاول للاستبداد عبد الرحمن الكواكبي .
و في حين دعى الامام محمد عبده الى ولاية المستبد العادل دعى العلامة علي عبد الرازق الى اعتبار الحكم شأنًا دنيويا و ليس شأنا دينيا
الامة التركبة التي دعت الى المشروطة في منتصف القرن الثامن عشر يعود بها المستبد اردوغان الى نظام استبدادي هجين.
و ايران البلد التي دعت الى المشروطة (البيعة المشروطة بالدستور وولاية الامة) باعتبار الامة او الشعب مصدر كل السلطات مطلع القرن التاسع؛ اي بعد تركيا بقرن من الزمان- عادت إلى ولاية الفقيه، وقامت ثوراتها السلمية ١٩٠٥و ١٩٠٩ ، ثم انتخاب محمد مصدق عضو البرلمان و المحامي الدي انتخب مرتين: ١٩٥١ ، و١٩٥٣
و جرى الانقلاب عليه و على الحياة النيابية في العام ١٩٥٣ بعملية مشتركة بين المخابرات الامريكيةو البريطانية.
صاحب كتاب ” المشروطة و المستبدة ” يشير الى انه ” بعد عقود من الزمن وصل علماء الدين الى السلطة في فبراير ١٩٧٩ ، و تبنوا فكرة المشروطة في كتابة دستور و تشكيل برلمان بعد جعل الفقيه في اعلى الهرم، و على الرغم من الاختلاف مع ما جاء به روح الله الخميني ١٩٨٩ الا ان الحركة الدستورية تعتبر مقدمة لما حصل بعدها .
و الواقع ان ثورة فبراير السلمية من اعظم ثورات القرن العشرين تصدى الشعب الايراني بالمظاهرات لسادس جيش في العالم وتمكن المتظاهرون من اسقاط” ملك الملوك” كان علماء الدين و بالاخص دعاة المشروطة سيد محمود الطلقاني احد اهم تلاميذ النائيني مؤلف كتاب ” تنبيه الامة و تنزيه الملة ” ، في المقدمة فقد قدم الكتاب تقديما ضافيا وكان ينحاز لليسار الاسلامي ( مجاهدي خلق).
اشترك في الثورة الوان الطيف السياسي و الحزبي : علماء المشروطة: طلقاني و هو القائد الفعلي للثورة، و نائب الامام في العام الاول، ثم حسين علي منتظري . انتهى الحال بطلقاني في السجن، في حين توفى النائب منتظري رهن الاقامة الجبرية، و جرت تصفية كل صناع الثورة : جماعة الجبهة الوطنية ” بازرجان الموالون لمحمد مصدق و مجاهدي خلق حلفاء طلقاني و حزب توده الذي قتل و شرد و اعتقل الالاف من اعضائه، و التجار و الطلاب.
المأساة ان الثورة السلمية العظيمة ثورة المشروطة تسقط بين اعتى بناة المستبدة : الايات المكفراتيين و الاشد طغيانا من نظام الشاه .
ايران البلد الوحيد في العام الذي تاسست شرعية الحكم فيه على المشروطة( الدستوز) منذ مطلع القرن الماضي ، و تجلت اكبر في ثورة ١١ فبراير ١٩٧٩ . صاغ الايات المستبدون دستورا تقوم شرعيته على تأييد الحكم في ولاية الفقيه الى يوم القيامة و تؤسس حكما طائفيا تفرض به تصدير الثورة. صادروا الحريات العامة و الديمقراطية و حرية الراي و التعبير و انتهكوا حقوق الانسان و قضوا على قوى الثورة و صفوا خصومهم ، و اقاموا نظاما ثيوقراطيا معاديا للعصور و للحريات و الحياة. قوت حرب الخليج الاولى اسوأ ما في النظامين الايراني و العراقي و حولت الاتجاه من حرب عربية اسرائيلية الى عربية فارسية
لن تهمد المعارضة رغم القمع الشديد .
فالمظاهرات و الاحتجاجات متتالية و مستمره ضد الازمات الشاملة و المتفاقمة و ضد الطغيان المتزايد و فساد النظام و استبداده و لكن مقتل مهسا اميني كان ” القشة التي قصمت ظهر البعير .
فقد انطلقت الاحتجاجات خصوصا في صفوف النساء و الطلاب و امتدت الى معظم المدن الايرانية، و انخرطت فيها مختلف مكونات الامة الايرانية و على مدى شهرين تتواصل المظاهرات تحت شعار المرأة، الحياة، الحرية.
قتل حتى الآن ما يزيد عن اربعمائة ايراني و اعتقل الالاف، و طال الاعتقال و القتل الرجال و النساء و الاطفال و دعاة و داعيات حقوق الإنسان و فنانات و شعراء و ادباء و رياضيين و من مختلف التركيبة المجتمعية و يحاول الايات جر البلاد الى مواجهات عسكرية؛ لاخماد الاحتجاجات المدنية التي تمثل شرعية الحكم.
عبدالباري طاهر
مفكر وكاتب يمني