تم النشر بتاريخ 14 ديسمبر, 2025
د. تركي القبلان
التاريخ السياسي مليء بالمفارقات التي تكشف حدود القوة حين تُنقل من ميدان الحرب إلى فضاء الدولة . فلطالما أنجبت الصراعات قيادات عسكرية قادرة على الحسم والانتصار لكنها ما إن تنتقل إلى موقع القيادة السياسية حتى تبدأ ملامح الفشل بالظهور ، لا لأن هذه القيادات تفتقر إلى الشجاعة أو الإخلاص بل لأن نوع العقل الذي يُدار به النصر العسكري يختلف جذريًا عن ذلك المطلوب لبناء الدولة . فالحرب تُدار بمنطق الإخضاع بينما تُبنى الدولة بمنطق الشرعية ، وما يصلح لإسكات الخصم لا يصلح لتنظيم المجتمع .
القائد العسكري يتقن اتخاذ القرار في بيئة صفرية واضحة المعالم (عدو محدد، هدف مباشر، خطة، وتسلسل أوامر لا يحتمل الجدل) . أما السياسة فهي فضاء معقد لا تقوم على القضاء على الخصم بل على استيعابه أو تحييده ضمن قواعد مشتركة .
تكمن جذور الفشل في الخلط بين مفهومي السيطرة والحكم . السيطرة آنية ومكلفة وقابلة للانهيار أما الحكم فعملية تراكمية بطيئة تقوم على بناء الثقة والمؤسسات والقدرة على إنتاج المعنى المشترك . القائد العسكري غالبًا ما ينظر إلى الزمن بوصفه عامل ضغط يجب اختصاره لصالح الحسم ، بينما الدولة لا تُقاس بالإنجازات السريعة بل بقدرتها على الاستمرار دون اللجوء الدائم إلى القوة . وحين تُدار الدولة بعقل يبحث عن “معركة حاسمة” تتحول كل أزمة إلى تهديد وجودي وكل خلاف إلى خيانة وكل تنوع إلى خطر .
التاريخ يقدم استثناءات نادرة لكنها مكلفة . أتاتورك مثلاً: نجح في الانتقال من قائد عسكري إلى مؤسس دولة لكن نجاحه لم يكن نتيجة الاكتفاء بالنصر العسكري بل نتيجة استيراد نموذج قانوني ومؤسسي جاهز وفرضه بإرادة سياسية حديدية . ومع ذلك ظلت تركيا تشهد تدخلات عسكرية دورية تحت عناوين متعددة ، مما يكشف أن حتى الاستثناءات الناجحة تحمل بذور أزمتها.
في المقابل أنتجت أفريقيا وأمريكا اللاتينية عشرات النماذج من القادة العسكريين الذين حسموا حروبًا أو انقلابات لكنهم فشلوا في بناء دول مستقرة لأنهم لم يتمكنوا من تجاوز منطق الحرب أو لم يمتلكوا السياق الاستثنائي الذي يسمح بذلك . كما أن الجيش بطبيعته بنية موحّدة تعمل بمنطق الانضباط والتشابه في حين أن المجتمع كيان متعدّد يقوم على اختلاف المصالح والرؤى والطبقات والهويات . نقل النموذج العسكري إلى المجال السياسي يميل إلى تهميش السياسة نفسها وتجفيف المجال العام وإنتاج استقرار شكلي يخفي تحته تصدعات عميقة . العسكرة المؤسسية لا تعني بالضرورة حضور الضباط في كل موقع بل تعني سريان منطق عسكري في طريقة عمل المؤسسات نفسها: الأوامر تُنفّذ لا تُناقش ، والمعلومات تُحتكر لا تُشارك، والتقييم يقوم على الطاعة لا الإنجاز .
وهنا تبرز إشكالية الشرعية بوضوح: الشرعية العسكرية شرعية استثنائية بطبيعتها: تقوم على وعد بالحماية من خطر محدد . لكن حين يزول الخطر أو يتحول إلى حالة دائمة ، تفقد هذه الشرعية معناها . الدولة العسكرية تجد نفسها مضطرة إلى إعادة إنتاج الخطر باستمرار – داخليًا أو خارجيًا – لتبرير استمرارها ، وهو ما يحولها من نظام حكم إلى نظام احتواء دائم للأزمة . الشرعية هنا لا تتحول إلى عقد سياسي بين الحاكم والمحكوم بل تظل رهينة لقدرة النظام على إقناع المجتمع بأن الخطر لم ينته بعد .
المشكلة إذًا ليست في خلفية القائد العسكرية بحد ذاتها بل في فشله في التحول الفكري من قائد معركة إلى رجل دولة . فبناء الدولة يتطلب عقلًا قادرًا على إدارة التناقضات لا القضاء عليها ، وعلى توزيع القوة لا احتكارها ، وعلى تحويل النصر العسكري إلى عقد سياسي جامع . من يعجز عن هذا التحول سيبقى أسير منطق الخطر وسيعيد إنتاج الحرب داخل بنية الدولة نفسها وإن غابت المدافع .
في المحصلة: لا تُقاس عظمة القائد بقدرته على كسب الحرب فقط بل بقدرته على جعل الحرب غير ضرورية لاحقًا . فالدولة الحقيقية لا تُبنى بالعقل الذي يعرف كيف ينتصر بل بالعقل الذي يعرف كيف يحوّل الانتصار إلى نظام والقوة إلى شرعية واللحظة إلى مستقبل . وربما يكمن الدرس الأعمق في أن الانتقال من الحرب إلى الدولة ليس مجرد تبديل أدوار بل هو تحول في طبيعة السلطة نفسها . القائد الذي ينجح في هذا الانتقال هو من يدرك أن قوته الحقيقية لا تكمن في قدرته على فرض إرادته بل في قدرته على بناء نظام قادر على الاستمرار .
ولا تبقى هذه الإشكالية حبيسة التنظير التاريخي أو المقارن بل تظهر اليوم بوضوح في نماذج معاصرة ما زالت في طور التشكل . فبعض الكيانات التي وُلدت من قلب الصراع المسلح لم تستطع مغادرة منطق الحرب حتى بعد اتساع هامش السيطرة وتراجع التهديد المباشر ، لتجد نفسها تعيد إنتاج المعركة داخل المجال السياسي ذاته . هنا تصبح التجربة المعاصرة مختبرًا حيًّا لاختبار حدود القوة حين تُنقل من ساحات القتال إلى فضاء الدولة، ويغدو السؤال عن القدرة على التحول من النصر العسكري إلى الحكم السياسي هو التحدي الحقيقي. وفي هذا السياق، يقدّم المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن مثالًا كاشفًا على هذه المعضلة البنيوية
يمثل المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن حالة معاصرة تطبيقية للإشكالية النظرية التي طرحناها: كيف تفشل القيادات العسكرية في التحول من منطق الحرب إلى منطق بناء الدولة، حتى حين تمتلك شرعية النصر العسكري؟ فالمجلس، الذي لعب “بعض” أعضاءه دور في مواجهة الحوثيين وتحرير “بعض” المناطق من الجنوب اليمني ، يجد نفسه اليوم عاجزًا عن تحويل هذا الإنجاز العسكري إلى مشروع سياسي جامع قادر على بناء دولة ضمن الصيغ المتعارف عليها . المفارقة هنا أن القوة ذاتها التي منحت بعض أعضاءه القدرة على التحرير باتت عائقًا أمام قدرته على الحكم بعد تأسيس المجلس الإنتقالي وهذا له شواهد كثيرة .
المشكلة بدأت حين انحسر التهديد الحوثي أو حين تتعقد الخريطة السياسية والعسكرية بحيث لا يعود الصراع صفريًا وواضح المعالم . هنا تُطرح أسئلة أعمق: ما الذي يجمع الجنوبيين بعد انتهاء المعركة؟ كيف يُبنى عقد سياسي لا يقوم على مجرد مواجهة عدو مشترك؟ وما طبيعة المؤسسات التي يجب أن تُدار بها “دولة جنوبية محتملة”؟ وهذا له شواهد ضمن صراع الكتل الجنوبية بعد 1967 م (حين تحول الصراع على السلطة بين الجبهة القومية والجبهة الشعبية إلى صراع مسلح دموي أضعف الدولة الوليدة) وهنا لن أستعيد تفاصيل الأحداث إنما للتذكير حتى مع مضي الوقت وجد نظام الحكم الجنوبي الحاجة تتطلب دخوله في الوحدة .
وعوداً على ذي بدأ المجلس الانتقالي بدلاً من الانتقال إلى منطق الشرعية الدستورية والعقد السياسي ظل أسيرًا لمنطق الشرعية الاستثنائية. وحين تراجع الخطر الحوثي المباشر في بعض المناطق ، لم يتمكن المجلس من إعادة تعريف نفسه كمشروع سياسي جامع بل عمد إلى “إعادة إنتاج منطق الخطر” لتبرير استمرار سيطرته: تارة بالحديث عن خطر الإصلاح وتارة عن خطر الشرعية اليمنية وأحيانًا عن أطراف جنوبية منافسة . هكذا تحولت الدولة “المفترضة” من مشروع بناء إلى آلية صراع دائمة .
وهنا المجلس الانتقالي قد يكون نجح في تحقيق السيطرة الميدانية على “بعض مناطق الجنوب اليمني” ، لكنه فشل في تحويل هذه السيطرة إلى “إدارة ناجحة” فالسيطرة كما أوضحنا آنية ومكلفة: تحتاج إلى حضور عسكري دائم . أما الحكم وفق أي شكل من أشكال الحكم فيتطلب بناء مؤسسات قادرة على العمل دون الحاجة الدائمة إلى السلاح وعلى إنتاج شرعية داخلية تقوم على الرضا والمشاركة لا على الإخضاع .
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع