تم النشر بتاريخ 2 نوفمبر, 2025
تحليل: حمدي ثابت
منذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على والده عام 1995، بدأت قطر رحلتها المثيرة في رسم سياسة خارجية أكبر بكثير من حجمها الجغرافي والسكاني. لم تكن الدولة الخليجية الصغيرة تسعى إلى التوازن بقدر ما كانت تطمح إلى النفوذ والتأثير عبر أدوات غير تقليدية: المال، الإعلام، والتحالف مع جماعات الإسلام السياسي. فبينما اختارت دول الخليج الكبرى نهج الاستقرار، اختارت الدوحة المغامرة بوصفها وسيلة للوجود على الخريطة السياسية الدولية.
منذ ذلك التحول، تبنت قطر مشروعًا واضح المعالم يرتكز على رعاية وتمويل حركات الإخوان المسلمين في العالم العربي. هذا التحالف لم يكن وليد صدفة أو دافعًا عقائديًا فقط، بل جاء كخيار استراتيجي لتحقيق نفوذ سياسي واسع عبر بوابة الإسلام السياسي، في لحظة كانت المنطقة تموج بالتحولات بعد نهاية الحرب الباردة. فأنشأت الدوحة شبكات دعم مالي وإعلامي ضخمة، أبرزها قناة الجزيرة التي تحولت من منبر إعلامي حر إلى أداة تعبئة وتحريض تخدم أجندات معينة، وتعيد تشكيل الوعي العربي بما يخدم مشروع “الإخوان” ومموليهم.
في اليمن، كان الدور القطري حاسمًا في تغذية الصراع. منذ اندلاع فوضى الربيع العربي ومن ثم اندلاع الحرب، تحركت الدوحة في مسارين متوازيين: دعم خفي لجماعة الحوثي عبر القنوات الإيرانية، وتمويل معلن لقوى محسوبة على الإخوان في مأرب وتعز. الهدف لم يكن سوى إضعاف التحالف العربي وإبقاء اليمن ساحة نزاع دائم تمنح قطر نفوذًا مضاعفًا، وتتيح لأنقرة وطهران توسيع أذرعهما على حساب الأمن الخليجي. في تعز ومأرب، أصبح المال القطري أداة لتفتيت القوى الوطنية، وإبقاء المشهد العسكري والسياسي رهينة للتوازنات الخارجية.
أما في ليبيا، فكانت قطر رأس الحربة في دعم الفصائل المسلحة التابعة للإخوان المسلمين منذ سقوط نظام القذافي عام 2011. قدمت تمويلًا ضخمًا وتسليحًا عبر تركيا، وإدارة حملات إعلامية شرسة ضد الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر. الهدف ذاته: منع قيام دولة وطنية مستقرة، وإبقاء البلاد تحت سيطرة الميليشيات القريبة من أنقرة والدوحة.
وفي السودان، لعبت قطر دورًا مركبًا بين المال والسياسة. مولت حركات إسلامية مسلحة منذ عهد عمر البشير، واستمرت بعد سقوطه في دعم قوى محسوبة على الإخوان، محاولة إعادة إنتاج تجربتها في القاهرة وطرابلس. أما في سوريا، فكان تدخلها مباشرًا عبر تمويل وتسليح فصائل المعارضة الإسلامية، بعضها تبين لاحقًا ارتباطه بجهات متطرفة، في حين نسقت مع تركيا تحت المظلة العثمانية الجديدة لإسقاط النظام السوري،. وقد عقد أبومحمد الجولاني اتفاقات سرية مع تركيا تتيح لها إنشاء قواعد عسكرية ومراكز استخبارات داخل سوريا.. وبذلكأصبح الجولاني واجهة محلية لمشروع تركي أوسع يهدف إلى فرض نفوذ دائم في الأراضي السورية عبر واجهات “سورية الهوية. تركية القرار”.
سياسيًا، تموضعت قطر في موقع الوكيل الإقليمي لتركيا في الخليج والجزيرة العربية. فبينما تتخذ أنقرة المواقف العسكرية، تمول الدوحة وتغطي إعلاميًا. العلاقة بين البلدين تجاوزت حدود التحالف التقليدي لتتحول إلى شراكة أيديولوجية متكاملة قائمة على دعم مشروع الإسلام السياسي وإعادة إنتاج النفوذ العثماني في المنطقة. في المقابل، حافظت الدوحة على علاقات وثيقة مع إيران، سرًا وعلنًا، خاصة بعد الأزمة الخليجية عام 2017. ذلك التقاطع بين المحورين التركي والإيراني كان أحد الأسباب الرئيسية لانتكاس المشروع العربي في مواجهة طهران، إذ فتحت قطر ثغرة استراتيجية داخل الموقف الخليجي، وكسرت الإجماع ضد تمدد إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
اقتصاديًا، استغلت الدوحة ثروتها الغازية لتثبيت حضورها السياسي عبر تمويل منظمات ومؤسسات دينية وإعلامية في أوروبا وأفريقيا وآسيا. وباسم العمل الخيري، مولت شبكات مرتبطة بالإخوان وواجهات سياسية تدعم التوجهات القطرية، ما دفع عدة دول غربية إلى فتح تحقيقات في أنشطة مشبوهة مرتبطة بتمويل الإرهاب وغسل الأموال.
إعلاميًا، تحولت الجزيرة وشبكاتها الرديفة إلى أخطر أدوات النفوذ الناعم في المنطقة. فخطابها الموجه صاغ وعيًا سياسي منحاز، يغذي الانقسام ويضرب الثقة بالمؤسسات الوطنية. لم تعد القناة منصة للرأي والرأي الآخر، بل منصة للتجييش وتلميع قوى الإسلام السياسي، وتشويه خصوم الدوحة في الخليج والعالم العربي.
اليوم، وبعد أكثر من ربع قرن على انقلاب حمد، يتضح أن قطر لم تبنِ مشروع دولة مستقلة، بل مشروع نفوذ عابر للحدود يقوم على رعاية الإخوان، والتحالف مع أنقرة وطهران، واستخدام المال والإعلام كسلاحين لتقويض الاستقرار العربي. النتيجة: انقسامات عربية متعمقة، تمدد إيراني وتركي غير مسبوق، وفوضى ما زالت تحرق دولًا كانت مستقرة.
إن استمرار قطر في دعم الإخوان والتنظيمات المرتبطة بهم لا يمثل خطرًا سياسيًا فقط، بل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي. فكل دولار يذهب لتمويل هذه الجماعات هو استثمار في الفوضى القادمة، وكل منبر إعلامي تحركه الدوحة هو رصاصة في قلب الوعي العربي. إن وقف هذا المشروع لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية ما تبقى من النظام العربي قبل أن تلتهمه أدوات صغيرة صنعتها دولة صغيرة. لكنها أدمنت اللعب بالنار.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع