تم النشر بتاريخ 10 أكتوبر, 2025
بقلم: نجيب الكمالي
رئيس دائرة العلاقات العامة بالاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين أصدقاء وحلفاء الصين – فرع اليمن
على مهل، لكن بثبات حديدي، تمضي الصين في طريقها لتكون سيدة هذا العالم. لا ضجيج، لا استعراض للقوة، بل أداء عميق، هادئ، ومدروس. إنها ليست مجرد دولة تنمو، بل منظومة فكرية واستراتيجية تُعاد صياغتها بدقة كل يوم، في كل قطاع، لتصنع من الصين قوة لا تُكسر.
لم تعد الصين تحلم بالمركز الأول، بل تصنعه. من عمق مصانعها العملاقة إلى موانئها التي لا تنام، ومن مختبرات الذكاء الاصطناعي إلى محطات الفضاء، ومن نفوذها في أفريقيا وآسيا إلى قوتها في المؤسسات الدولية، يتجلى مشروع متكامل لدولة تُعيد رسم ملامح العالم الجديد على طريقتها الخاصة.
ما تقوم به الصين ليس صعودًا اقتصاديًا فحسب، بل هو إعادة هندسة شاملة للنظام العالمي. لقد أدركت بكين مبكرًا أن القوة لم تعد في امتلاك السلاح وحده، بل في السيطرة على السوق، والعقول، وسلاسل الإمداد، ومصادر الطاقة، وطرق التجارة، وأدوات التمويل. ولهذا أعادت بناء قوتها من الجذور، فأصبحت اليوم عاصمة العالم الصناعية، وشريكًا اقتصاديًا لا يمكن تجاوزه.
ومن خلال مشروع “الحزام والطريق”، لم تكتف الصين بربط القارات، بل ربطت القرار العالمي بشبكتها الاقتصادية. لم يكن هذا المشروع بنية تحتية فحسب، بل بنية نفوذ عابرة للحدود. تزامن ذلك مع توسع نفوذها الناعم، وقدرتها المتزايدة على خوض حروب اقتصادية بصمت وفعالية، كما فعلت في معركة فول الصويا، حين هزّت سوقًا أمريكيًا ضخمًا دون إطلاق رصاصة واحدة.
أما على الصعيد المالي، فتتحرك الصين لكسر احتكار الدولار للنظام النقدي العالمي. عبر توسيع استخدام اليوان، وإبرام الاتفاقيات الثنائية بالعملات المحلية، وشراء الذهب بوتيرة متسارعة، تدفع بكين نحو نظام عالمي أكثر توازنًا وعدالة، وتفتح الباب أمام دول تبحث عن استقلال مالي عن الغرب.
الصين لا تُجبر أحدًا على الانضمام إلى رؤيتها، بل تُغريهم بها. تقدم نموذجًا قائمًا على السيادة، والكفاءة، والنمو دون التبعية. نموذج يثبت أن التنمية ليست حكرًا على الغرب، وأن الطريق إلى القوة لا يمر بالضرورة من واشنطن.
في المقابل، تبدو الولايات المتحدة غارقة في أزماتها الداخلية، مستنزفة في حروبها، منقسمة بين يمين ويسار، ومتعثرة في الاحتفاظ بصورة القوة العظمى التي كانت في الماضي لا تُناقش ولا تُنافس.
الصين، بعكس ذلك، تزرع كل يوم لبنة جديدة في بنيان المستقبل. تبني ولا تهدم. تُخطط ولا تندفع. تدير صعودها كمهندس يملك الخريطة الكاملة، ويدرك أن المجد لا يُنال بالعجلة، بل بالثبات.
اليوم، حين تتحدث الصين، ينصت العالم. وحين تتحرك، تتغير الحسابات. هذه ليست صدفة، بل نتيجة حتمية لمشروع وطني عمره عقود، يقوم على الانضباط، والوعي، والعمل المستمر، والتخطيط طويل الأمد.
الصين لا تُعلن أنها قائدة العالم، لكنها تتصرف كمن يستعد لتسلُّم المفاتيح. لا تطلب المكان الأول، بل تُمهِّد الطريق ليأتي إليها.
إنها الصين… دولة بحجم قارة، وعقل بحجم حضارة، وقدرة بحجم التاريخ.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع