استمرارية الرسالات: الحقيقة التي طُمست عمداً

تم النشر بتاريخ 8 أكتوبر, 2025

وليد عياش

اليوم، لن أستدلّ بآيات قرآنية على استمرارية الرسالات، لأنّ النصّ القرآني قد تكفّل ببيانها لمن أراد التعقل والإدراك والإدكار . بل سأجعل هذا الحديث خطابًا عقلانيًا حرًّا، يحاول أن يستكشف المعنى والمغزى الأعمق لقصص الأمم السابقة، تلك القصص التي شغلت حيزًا واسعًا من القرآن الكريم — ما يقارب ثلاثة أرباعه — ليس سردًا للتاريخ، بل بوصفها منظومة تحذيرية متجددة تكشف عن طبيعة السنن الإلهية في التعامل مع الإنسان والمجتمعات.

لقد أراد الله أن تكون قصص الأمم السابقة مرآة للعقل الإنساني، يرى فيها دورة الحياة الروحية من الإيمان إلى التكذيب، ومن الطاعة إلى الطغيان، ومن الوحي إلى الانقطاع، ثم من البعث إلى البعث من جديد. فالمغزى العميق لتلك القصص لم يكن في أسماء الأقوام ولا تفاصيل الحروب، بل في القانون الإلهي المستمرّ الذي يقول للعقل: كما كانت سنّته في الماضين، فهي كذلك في الحاضرين واللاحقين، لا تتبدل ولا تتوقف.

وأكبر حقيقة تمّ التآمر عليها في التاريخ الديني ليست مجرد تحريف الشرائع، بل تغييب مسألة استمرارية الرسالات نفسها، وادّعاء انقطاع الوحي واستحالة أن يبعث الله رسولًا جديداً ، وكما قالت ذلك الامم السابقة قالته أمة القرآن ايضا .

هذه الفكرة الوهمية لم تنشأ من وحيٍ إلهي، بل من خوفٍ بشريٍّ غريزيٍّ على السلطة والمصلحة. لقد تحوّلت “عقيدة الختم” من معنى روحانيٍّ سامٍ إلى سياجٍ سياسيٍّ مقدس حُبس فيه الله، وصار تجديد رسالته جريمة تُكفَّر، لا بشارة تُنتظر.

فلماذا طُمست هذه الحقيقة البديهية التي تنطق بها السنن والعقل والتاريخ معًا؟

الجواب واضح لكلّ من تجرّد من التبعية: لأنّ الرسالة الجديدة تُهدّد بنية المصالح الراسخة، وتهدم كل امر مستقر ،
فالذين ورثوا نفوذ الدين والشرع والمكانة لم يخافوا من ضلال الناس، بل خافوا من سقوط عروشهم. فالإيمان باستمرارية الرسالات يعني ببساطة سقوط الاحتكار الذي تمارسه الطبقات الدينية والاجتماعية التي جعلت من نفسها وسيطًا بين الخالق والمخلوق.

وهكذا تحالف المال والسلطة ورجال الدين عبر العصور على طمس فكرة التجديد الإلهي.
فالأحبار الذين واجهوا عيسى عليه السلام لم يفعلوا ذلك غيرةً على الله، بل خوفًا على امتيازاتهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية.
وقريش حين حاربت محمد عليه السلام لم تكن تدافع عن عقيدة الأصنام، بل عن اقتصادها المقدس المرتبط بتجارة الكعبة ونذورها.
وفي كل عصرٍ، يتكرّر المشهد ذاته: تتكوّن شبكة مصالحٍ تتغذّى من الدين القديم، وتقاوم بشراسةٍ أيّ تجلٍّ جديدٍ للوحي أو أيّ دعوةٍ لتجديد الروح الإلهية في الأرض.

لقد تحوّل الدين في أيديهم من رسالةٍ إلى سلطة ، ومن طريقٍ إلى الله إلى وسيلةٍ للهيمنة.
وبهذا أصبحت فكرة “انقطاع الرسالات” الدرع العقائدي الذي يحمي مصالحهم ويمنع سقوط سلطانهم.

فالاعتراف بأنّ الله قد يبعث رسولًا جديدًا يعني انهيار هياكل النفوذ التي بُنيت على “القداسة الموروثة”، ويعني أن العقل لم يُغلق بعد، وأنّ الوحي ما زال قادرًا على الكلام، وعلى البعث والإحياء الروحي من جديد .

وإذا تأملنا بصدق، سنرى أن قصص الأمم السابقة لم تكن سوى تحذيرٍ من هذا النمط نفسه:
فالأمم كانت تكذّب رسل الله لأنها حصرت الحقيقة في الماضي، ورفضت أن تؤمن بأنّ لله في كل عصرٍ كلمةً جديدة.

لقد قالوا كما يقول المتعصبون اليوم: لقد أوتي آباؤنا العلم من قبل، فلا حاجة لرسالة جديدة.
وتلك هي الجريمة التي كررها الإنسان منذ فجر التاريخ: أن يجعل من نفسه حارسًا على السماء.

غير أنّ الله، في حكمته، لا يسكت عن الحياة. فهو الذي وصف نفسه بأنّه كلَّ يومٍ هو في شأن، أي في تجلٍّ دائمٍ وخلقٍ متجدّدٍ، فكيف يخلق الكون باستمرار ثم يُعطل تجلّيه في عقول البشر؟

إنّ الوحي جزءٌ من نظام الخلق، يتنزّل حين تبلغ البشرية مرحلة جديدة من النضج والاختبار، كما يتنزّل المطر حين تحتاج الأرض إلى حياة جديدة.

وما كان القرآن ليُكثر من قصص الأمم السابقة إلا ليوقظ في الإنسان هذه الحقيقة الغائبة: أنَّ الامتحان الأعظم للبشرية لا يزال نفسه — هل سيؤمن الناس حين يُبعث رسولٌ جديد، أم سيتشبّثون بالماضي ويكرّرون خطأ الأمم السابقة؟

إنّ هذا السؤال ليس نظريًا ولا تاريخيًا، بل هو جوهر الوعي الديني والإنساني:
هل نؤمن بالله كإلهٍ حيٍّ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أم نحصره في الكتب القديمة ونقول له: كفى، لقد قلت كلمتك الأخيرة؟

إنّ من أراد أن يدرك فالأمر بسيط: الله لا يُحبس في عصرٍ، ولا يُختتم في نبيٍّ، ولا يُقيَّد بختمٍ صنع صناعة بشرية بفهم بشري عقيم .

ومن أراد التعامي، فذلك شأن النفس حين تُغشى ببصيرتها، أما الله — جلّ شأنه — فيبقى يرسل من يشاء، ليُجدّد ميثاقه مع الإنسان كلما غلب عليه الغبار ونسي وجه الحقيقة.

فالدين لله، لا للرسل والمظاهر الالهية ، ولن يتوقف عند مبعوث سماوي بعينه ، والرسالة دائمة، لا موسمية. والوحي ما زال يتكلّم في القلوب التي تطلب النور، لا في العقول التي تُغلق الأبواب وتزعم أن الله قد صمت إلى الأبد.

Left Menu Icon
الرئيسية