افتهان المشهري … دمٌ يوقظ المدينة ونداءٌ يقضي بانعتاقها

تم النشر بتاريخ 1 أكتوبر, 2025

مـــصـــطــفـــى بن خالد

شهيدةُ نظافةِ المدينة، ومرآةُ كرامتها — صوتٌ صارخٌ في وجه الظلام: «أخرجوا الميليشيات، أعيدوا لتعز مدنيتها وكرامتها» .

في تعز، حيث تصطدم أحلامُ المدينة بصخورِ الحرب، لم تكن إفْتَهان المشهري سوى امرأةٍ واحدةٍ تطلب البديهية :
شوارع نظيفةٌ، سماءٌ أخف دخانًا، وجوارٌ لا يختنق بالخوف. اغتالوها أيادٍ متّسخةٌ لا تملك من الدين إلا ستارًا لقتل الآخر وإرهابه .

لكن حين رحلت، لم تُغلق بابها على محبةٍ؛ بل فتحت نافذةً على حقيقةٍ أوسعَ :
أن المدينة لا تُستردّ إلا بإخراجِ من حوّلوا الدينَ إلى كرةٍ ودرعٍ للقتلِ والابتزاز، وبإعادة الحياة إلى صروحها المدنية حيث القانون فوق السلاح، والكرامة فوق الخوف .

ما الذي تطلبه المدينة اليوم؟

ليست المطالبة مجرد عاطفة جنائزية، بل برنامج عمل : إخراج الميليشيات الإجرامية من أحياء المدينة، وقطع كل علاقة بين قوة السلاح والسلطة المدنية، وإرساء إدارة مدنية عادلة تكون حاضنة للحقوق لا أداة للهيمنة .
تعز التي أنجبت مناضلين ومثقفين ليست مدينة هامشية، بل قلب المشروع الوطني — ولا يمكن أن يرتقِ قلبٌ مشلولٌ بالتهديد والابتزاز.

لماذا إخراج الميليشيات ضروري؟

الميليشيات التي تتخذ من الدين ستاراً لقتل الناس وابتزازهم هي سرطانٌ أضعف النسيج الاجتماعي، وعطّل عمل الدولة والمؤسسات، وحوّلت الإدارة والخدمات إلى رهينة .
استمرار وجودها في المدينة يعني استمرار الفوضى، واستمرار الإفلات من العقاب، واستمرار خنق أي محاولة تنموية أو مدنية .
التخلي عن منطق السلاح هو شرط استعادة الأمن، والعدالة، والكرامة .

إدارة مدنية — لا حل وسط مع الفوضى

تعز بحاجة إلى إدارة مدنية خالصة :
مؤسسات مكشوفة، شفافية مالية، سيادة للقانون، وقضاة مستقلون، وجهاز أمني مهني خاضع للمساءلة .

الإدارة المدنية ليست رفاهية؛ هي الطريق الوحيد لإعادة بناء المدينة، جذب الاستثمار، حماية النساء، وإحياء الحياة اليومية .
في غياب الإدارة المدنية، يقف الفاسدون والميليشيات كحائطٍ يمنع النجاة.

بيت هايل : الخبرة والقدرة على الإدارة والتنمية

في زمن الفراغ، يُطرح اسم بيت هايل كقوة اجتماعية وإدارية قادرة — ليس كحاكمٍ أبدِيّ، بل كشريكٍ مؤهل لقيادة مرحلة انتقالية لإعادة بناء مؤسسات المدينة .

لمن له جذور اجتماعية، سمعة في الحوكمة المحلية، وشبكة علاقات وطنية وقبلية، فإن دوره المحتمل يمكن أن يكون في ثلاثية :
تثبيت الأمن المدني، تنظيم إدارة الخدمات، وتمهيد الطريق لمرحلة انتخابات محلية حرة ونزيهة .

المقترح هنا ليس تكريس زعامة فردية، بل الاستعانة بكفاءات محلية لها ثِقَلها الاجتماعي لمأسسة إدارة عادلة ورقابية .

إستراتيجية الخلاص — خارطة طريق مدنية وقانونية

تعز لم تعد تحتمل الشعارات .
الدماء التي سُفكت، والنساء اللواتي اغتيلت أصواتهن، والمدينة التي اختنقت بالقذارة والفوضى، كلها تقول بوضوح :
آن أوانُ مشروعٍ عملي، مدني، نابع من القانون والشرعية الاجتماعية .

1. تفكيك الميليشيات وإعادة هيكلتها

السلاح لا مكان له في إدارة المدن .
تفكيك التشكيلات المسلحة شرط أول، مع إعادة إدماج الأفراد في المجتمع أو إخضاعهم للقضاء، في قطيعةٍ تامة بين الدولة ومنطق الميليشيا .

2. ترسيخ الأمن المؤسسي

أمنٌ يحمي الناس لا يتاجر بهم :
قوى أمنية مهنية، تحت إشراف وزارة الداخلية، وقضاء مستقلّ لا يخضع للابتزاز أو الأجندات .

3. إقامة إدارة مدنية مؤقتة

مرحلة انتقالية تُدار بخبراء محليين وطنيين، بأسماء تحمل قبولًا شعبيًا واسعًا، على أن تكون لها آلية واضحة وشفافة لتسليم السلطة لاحقًا إلى مؤسسات منتخبة ديمقراطيًا .

4. ملاحقة الفساد بلا هوادة

فتح تحقيقات علنية، محاكمات شفافة أمام القضاء، حماية الشهود، وضمانات لمساءلة الجميع بلا استثناء .
الفساد شقيق الحرب، ومواجهته هي استكمال لمعركة التحرر والبناء .

5. برنامج تنموي وإعمار عاجل

خارطة أولويات تبدأ من الأساسيات :
نظافة، مياه، طرق، تعليم وصحة .
هذه ليست خدمات هامشية، بل شهادة يومية على أن الدولة قد عادت إلى المدينة لتخدم مواطنيها لا لتبتزّهم .

افتهان كمؤشر : من الحزن إلى القرار الوطني

رحيل افتهان أعطى المدينة مرآة لا تُكذب :
إن دماءها ليست خسارة شخصية فحسب، بل اختبار للضمير الوطني .
إن الحضور الجماهيري في تشييعها لم يكن مجرد واجب عزاء، بل استفتاء على أن التعز تريد أن تحكم نفسها بحكم رشيد، لا بقهر السلاح .

إن الاحتفاظ باسمها كرمز يعني أكثر من تذكّر؛ يعني تحويل الألم إلى إستراتيجية سياسية وقانونية تعمل على إنهاء سطوة المليشيات .

وصيّة المدينة : لا تفاوض على كرامتنا

تعز اليوم على مفترقٍ حاسم :
إما أن تبقى أسيرةً لوجوهٍ اعتادت الاستثمار في الفوضى،
وإما أن تنهض بإدارةٍ مدنيةٍ خالصة،
تجتثّ الفساد من جذوره، وتعيد للحياة مشروعيتها في هذه المدينة العريقة .

نحن نقولها بصرامة :
لن يكون الدين ستارًا للقتل بعد اليوم، ولن يبقى السلاح سيّدًا فوق القانون .

إن إخراج الميليشيات ليس انتقامًا، بل ولادةٌ جديدة،
وإرساء إدارة مدنية عادلة ليس ترفًا، بل شرطُ البقاء .

هذا هو نداء التحرر :
من أجل مدينةٍ حيّة لا مدينةٍ مخنوقة،
من أجل نساءٍ محميّات لا مهدّدات،
من أجل وطنٍ يحترم مواطنيه، ويقدّر دماء من ضحّوا لأجله .

إلى روح افتهان المشهري …

سلامٌ عليكِ يا ملاك تعز، يا من أردتِ للمدينة وجهاً جميلاً وهواءً طاهراً، فأردوكِ رصاصات الفساد .

لكن دمك لم يسقط على ترابٍ صامت؛ دمك اشتعل جمراً يضيء الدروب، ويصرخ في وجوه القتلة :
لن تبقى الميليشيات سيّدةَ هذه المدينة، لن يُتخذ الدين ستاراً لذبح الأبرياء، ولن يظلّ الفاسدون قمامةً فوق صدورنا .

ارحلي بسلام، فصوتك اليوم أعلى من صخب رصاصهم، وصورتك أبهى من وجوههم المتعفّنة .

ارحلي، فقد تركتِ وصيةً لا تُمحى :
اجعلوا رحيلها بدايةً لمدينةٍ نظيفة، عادلة، آمنة .

ولْيَعلَم الجميع أن تعز لن تنحني، وأن إدارةً مدنيةً خالصةً هي قدرها الحتمي، وأن بيت هايل أو أي قوة مدنية محلية ذات قبول عام ليست سوى جسرٍ مؤقت لإعادة البناء .

أما الوطن — فليس رهينةً لأحد، ولن يكون .

Left Menu Icon
الرئيسية