عندما يتم اقصاء مفكريها واصحابها الحقيقيين…كيف تؤول الثورات الي مأزق حقيقي؟(قراءة نقدية واستشرافية للثورة اليمنية)

تم النشر بتاريخ 29 أكتوبر, 2022

الثورة اليمنية ثورة بدأت أصيلة واستمرت واعية منبثقة من أعماق الانسان المكبل بالحرمان ,وفقدان مساحات التعبير عن القدرات.

وهي شبابية عفوية, تحركت طاقاتها في أرجاء اليمن, حتى أحدثت تغييرا اوليا على طريق التحول الجذري نحو المستقبل المشرق.

أنفجر الشباب وقالوا كلمتهم ورفعوا رايات تطلعاتهم, ورسموا خارطة غدهِم وخطوا بوضوح وادراك وحكمة وفهم عميق ومعاصر لمعاني الحياة والصيرورة الحضارية الإنسانية، وكان رأس نفيضة الشباب والقائمين على إدامة زخم الثورة ووصولها إلى ذروتها, يمثل ولادة حضارية أصيلة معبرة عن حقيقة الشعب.

ومن غرائب هذه الثورة, ان القوى التي ما خطرت على بالها الثورة تمكنت من اقصاء أصحابها الحقيقيين وعقولها المدبرة, وراحت تدعي ما تدعيه وتعلن ملكيتها الحقيقية للثورة, وفي هذا تكمن اقسى طعنة اصابت ثورة الشعب اليمني الحضارية الباهرة, بآليات تنفيذها ووصولها إلى اهدافها المشروعة، وبناء على ذلك فأن الثورة ستلد ثورة أو متوالية ثورات, لأن الثورات لا يمكن سرقتها بلا ثمن, وان الثورات لا يمكنها الا أن تمنح نفسها لرجالها, وتقاوم الاغتصاب والاعتداء, ولا تستكين في قبضة سجان.

الثورة طاقة متفجرة متولدة منصهرة مطلقة لا يمكن حشوها في صناديق الاحزاب والعقائد والمذاهب والرؤى الشمولية, المتوهمة باحتكار الحقيقة والمشحونة بالعدوان الوهمي الفاعل في ازقة كيانها.

الثورة تعبير صادق لارادة الحياة ونبض قلب الشعبي الحي، وما حدث لدينا كان عبارة عن ارتدادات ثورية حائرة, بسبب محاولات احتوائها وتهميش رموزها الحقيقيين الصادقين, فروح الثورة لا يمكنها أن تتجلى إلا بأبطالها ومنفذيها, ولهيب الانتصار ونشوة الانجاز تحققت فيهم, وليس بغيرهم من المدعين بالثورة،
فالثورة شبابية الملامح والرؤى والتصورات.

ولعل فيما رايناه ان الذين تقدموا وتمكنوا, لا يمتون بصلة قوية للشباب, وإنما جيل ربما يسعى إلى قهر الشباب الذي يمثل النسبة الاكبر والاقوى في المجتمع, وفي ذلك تعبير جوهري عن عقلية الطغيان والاستبداد، فما يبدو في المشهد المقرر يغيب عنه الشباب.

ولماكانت القوى الجامعة لطاقات الثورة وتدفقاتها الشبابية قد تم إبعادها, فأن حالة من الحركة والتفاعلات العشوائية ستتحقق حتما, وستتحول الموجودات المتحررة من الضغط الذي مثله النظام عليها خلال عقود حكمه لها إلى موجودات حائرة ويائسة ومتحسرة ومتألمة و متأسفة أو نادمة, وفي هذا تكمن خطورة كبيرة.

وبسبب ذلك تسعى بعضها إلى استعادة الحالة الماضية, او العودة إلى حالة الوجود المضغوط لكي تشعر بالامان وراحة البال, فالتغيير المتصاحب بنتائج عشوائية يؤدي إلى اضطرابات سلوكية جماعية هستيرية وخيمة.

ومن بديهيات الفهم الحضاري الثوري ان الثورات لا يمكن لها ان تعيش في معتقلات الاحزاب ذات العقائد المشوهة والمفصلة على قياسات غايات في نفس يعقوب.

فالدين الحقيقي ثورة إنسانية منيرة, وتمثل ذلك بوضوح خالد منذ الهجرة النبوية الشريفة للمدينة المنورة، فما الدين الا ثورة بأقصى ما تعنيه الثورة, ولكل ثورة منتوجات اقتصادية ومعرفية تنويرية وثمار روحية وعقائدية تجعل الثائرين يعملون كفريق واحد.

فقد كانت تلك الثورة ذات غنائم اقتصادية ومعرفية وانتقالات إيجابية مشرقة في الوعي والإدراك البشري.

وعلى هذه القياسات يمكن الحكم على أية ثورة، فهل حققت الثورة اليمنيةاي قدر من ذلك المنتوج؟
وهل أسهمت في الارتقاء بالوعي؟
وهل حركت المجتمع تحت لواء مفهوم وطني واضح.

والملاحظ الثورات تلد منظريها ومثقفيها وكتابها وشعرائها ومفكريها وإعلامها, وفي حالة الثورات العربية واليمنية خصوصا, غابت هذه الظاهرة, والتي تعكس أن الثورات العربية سائبة وتتخبط في بيداء الحاضر والمستقبل, وفي هذا تكمن مخاطر انحرافاتها وانكساراتها وتحولها إلى صيرورات متصاغرة متصارعة, لا لشيء, وانما لتصريف طاقاتها والتخلص من مكبوتاتها الأليمة.

ومن غرائب الثورات العربية انها اتسمت بالعاطفية, وحسبت ان تغيير النظام القائم سيفتح ابواب الخيرات مباشرة, وان العمل الثوري عبارة عن (مقيًًل )في جلسة قات تحت ظل تلك الخيام , وهذا التصور تسببت فيه الانظمة المستبدة التي جردت الإنسان من مسؤوليته, وزرعت في وعي الاجيال ان كل شيء من مسؤولية الدولة والسلطة والحزب الحاكم, مما تسبب في تنمية مشاعر العداء لكل ما يرتبط بالدولة, وكذلك الاسهام في إضعاف المشاعر الوطنية والحرص على المصلحة العامة.

وهذا الانحراف في الوعي والادراك, ادى إلى تصعيد مشاعر الخيبة والياس والاحساس بالاحباط في اعماق الناس, ودفعهم للقيام بأفعال يائسة, وكأنها تريد الانتقام من ذاتها وموضوعها.
.

إن الخروج من المأزق الثوري, يتطلب من الثوار ان لايستسلموا ولا ينكسروا, وان يواصلوا ويحافظوا على إصرارهم وحقهم في اشعال ثورات جديدة و في قيادة تلك الثورات والتعبير عن منطلقاتها، ولا بد للشباب ان يكونوا في المقدمة, وان يترجل الدخلاء عليها ويعبروا عن وطنيتهم وتجردهم من التطلعات الذاتية والحزبية والفئوية.

فغياب الشباب وعدم الاعتراف بدورهم والتعامل معهم بعقلية أبوية, تعويق خطير ومدمر لأية ثورة.

فالثورة يقودها الشباب
والثورة يصنعها الشباب، والثورة تصل إلى اهدافها حتما بالشباب, وشباب الثورة اليمنية من انضج شباب الامة، وعلينا ان نفخر بهم ونسلمهم زمام القيادة الوطنية, ونتحرر من أنانيتنا وشيخوختنا وتصوراتنا الوهمية والحزبية الضيقة السالبة.

وعلى اليمن ان تتحرر من قبضة القيادات الطاعنة في السن لكي تجني ثمار ثورتها, وان تفسح المجال للاجيال المتوافدة المتوقدة, وبذلك تكون القوة والرمز والتطلع الخالد والمتجدد.

وحتى تحقق الثورة اهدافها وتحافظ على دورها وتأثيرها الإيجابي في الحياة, لا بد لها ان تكون ملتزمة برؤية حضارية ذات آفاق مستقبلية وتفاعلات يومية, تمضي في مسيرتها نحو الوصول إلى إنجاز مشروعها الحضاري الذي ثارت طاقات الاجيال للاسهام بتحقيقه ونمائه.

ويستحيل على الثورة ان تكون معبرة عن تطلعات الاجيال وآمالها, إذا افتقدت لعناصر ومكونات الرؤية الحية الواضحة اللازمة لتطورها وتقدمها وإرتقائها نحو آفاق الصيرورة الصائبة.

وخلال مسيرات القرن العشرين تعلم العرب, ان الثورة الفاقدة لرؤيتها لا تكون إلا نوعا من الهيجان الصاخب والاضطراب اللاهب والتفاعل الزوبعي المدمر مع المواقف والتطورات والاحداث, وينتهي بها الامر إلى ان تكون رهينة للفردية والتحزبية والفئوية او تظل في محبس الانتفاضات .

وحتى تكون الثورة ناجحة وموفقة , يلزمها التمسك برؤية حضارية معاصرة, والتي من اهم عناصرها الصمود والثبات على المبدأ والتعاون والمشاركة الفاعلة والتجديد اليومي وبث الحيوية فيها والحفاظ على روح التفاعل والحماس والشعور بالواجب الوطني والوعي بالمسؤلية التي يحملها الشباب تجاه الوطن، وعدم اليأس والتذمر ان ارادوا وطنا خاليا من الظلم والفقر والقهر والحرمان، وان لايفرطوا قط في الدماء التي اهدرت على هذا الطريق،
والثورة التي لا تهتم بالعقل وتنمية القدرات المعرفية للانسان لا يجوز تسميتها بالثورة , فجوهر الثورة هو الاستمرار والصمود والتنمية الثقافية والمعرفية اللازمة لتوفير المهارات والقدرات الكفيلة بإطلاق الطاقات وإستثمارها في البناء الوطني وتحقيق الاهداف .

ان اجتثاث الانظمة المستبدة يعني ولادة شعب وامة على تربة جديدة وفي فضاء آخر، وما اصاب المجتمع الثائر, انه كان في دسوت الانظمة الفردية ذات الضغط العالي, وكان يفور بداخلها, وعندما تحقق الانفجار الاعظم وانطلق الشعب من دسته الحامي, تناثرت طاقاته في جميع الاتجاهات والهيئات والاشكال، وبفعل ذلك راحت اليات التكتل والتجمع والتحزب والتمحور حول حالة ما او تصور معين تستقطب الناس, واصبحنا امام شعب من الكتل والاحزاب والطوائف والمذاهب والحركات والائتلافات وغيرها من التنوعات.

والدافع إلى ذلك هو الحاجة للشعور بالقوة والامان, بعد ان غاب الغطاء الضاغط والفاعل في جميع عناصر المكان.

ولنطرح على انفسنا هذا السؤال هل امتلكت ثورتنا عقل مدبر مستقل ؟ اي هل اوجدت العقل القادر على رسم خارطة الطريق وتوضيح معالم مسيرتها واوضحته بالرؤية الثورية اللازمة للنجاح؟
الثورة صرخة عفوية انطلقت بقوة الحاجة والحرمان والطموح والتطلع إلى حياة افضل، ولكنها وبعد زهاء كل هذه السنوات التي مرت تبدو وكأنها ثورة يتيمة!
فالامل كان يحدونا بانها ستلد عقولها ومفكريها وفلاسفتها ونظرياتها الثقافية اللازمة للصيروة المثلى، لان الثورة لا يمكنها أن تنجح بدون عقل، ولا يمكنها أن تتحقق من غير ثقافة ثورية وعقل ثوري ونظرية ثورية ولايمكنها ان تركن للعقول التي ظلت تقاومها حزبيا وسياسيا وفكريا وثقافيا واعلاميا سابقا ولاحقا .

فالثورة اذا في مأزق حقيقي عليها ان تعيه وتتجاوزه اذا ارادت اعادة انتاج ولادتها من جديد.

ان المسؤولية تقع على المثقف اودوره الوطني ان لم نقل الثوري الذي يجب ان يكون صوت الثورة القادر على إطلاق نظريتها في الحرية والديمقراطية، وان لا تستكين الاقلام للبيع والشراء في حوانيت الارتزاق وتغرق في مستنقعات الكتابات السلبية, لان النداء الحضاري مدوي, ويبحث عن ابطاله ورموزه الفكرية والثقافية المتبصرة.

وينبغي على الشباب الواعي الذي اسهم في الثورة وفي تحريك الجماهير ان يمتلك العقل الثوري الثقافي الحضاري المعاصر, وان معظم رموز الشباب الذين اسهموا في إطلاق شرارة الثورة يمتلكون الرؤى والتصورات والقدرة على النظرة المستقبلية الصحيحة, وما يحتاجونه هو ان يتوحدوا ويتفاعلوا ويؤسسوا لوجودهم الفكري الثقافي, للوصول إلى توفير الوعاء النظري اللازم لبلوغ اهداف الثورة وطموحاتها الإنسانية العادلة، وان يستمروا في مسيرتهم ولايعبأوا بما يريده الاخرون، لانهم هم اصحاب القرار والكلمة الفصل لتقرير مصيرهم اليوم وفي المستقبل.

حافظ الشجيفي

باحث في مركز مسارات للاستراتيجيا والاعلام

Left Menu Icon
الرئيسية