تم النشر بتاريخ 4 سبتمبر, 2025
لؤي الكمالي
في زمن الأزمات الاقتصادية والانهيارات المتسارعة في قيمة العملة المحلية، يجد المواطن نفسه الحلقة الأضعف أمام جشع بعض التجار واستغلالهم. الأسعار ترتفع، السلع تختفي، والقدرة الشرائية تتآكل يومًا بعد يوم.
وفي ظل هذا الواقع، أطلق التيار الوطني للتصحيح والبناء مبادرة الرقابة الشعبية لمراقبة الأسعار، خطوة تهدف إلى إشراك المجتمع في مراقبة الأسواق وتخفيف الأعباء عن كاهل الناس.
لكن كيف يمكن لهذه الفكرة أن تثبت نفسها؟ وكيف يمكن أن تنجح في بيئة يعاني فيها الاقتصاد والفوضى؟ التاريخ العربي يقدم لنا نماذج ملهمة.
تونس بعد سقوط نظام بن علي في يناير 2011، واجهت انهيارًا شبه كامل لمؤسسات الدولة وارتفاعًا حادًا في الأسعار تجاوز 200% في بعض المناطق. في قلب هذا الفوضى، تشكلت لجان الإمداد الشعبية من شباب متطوعين في الأحياء الفقيرة. كان هؤلاء الشباب يراقبون الأسواق يوميًا، يكشفون المخازن الاحتكارية، ينشرون أسماء المحتكرين عبر الإعلام، وينظمون أسواقًا شعبية بأسعار عادلة. ونتيجة لذلك، انخفض التضخم، وأجبرت الحكومة المؤقتة على فرض تسعيرة إلزامية للسلع الأساسية، وفتحت تحقيقات في قضايا فساد التجار.
مصر، بعد ثورة 25 يناير 2011، شهدت نشاطًا مكثفًا لكل من جمعية حماية المستهلك والحملات الشعبية التي نظمها المواطنون لمواجهة ارتفاع الأسعار وجشع التجار. عملت الجمعية على التوعية بحقوق المستهلك ومراقبة الأسواق، بينما أطلقت الحملات الشعبية مثل حملة “خليها تصدي” عام 2019، التي دعا فيها ناشطون إلى مقاطعة شراء السيارات احتجاجًا على ارتفاع الأسعار. أثبتت هذه الجهود المشتركة قدرة المجتمع المدني على الضغط بشكل مباشر على السوق، وتعزيز العدالة الاقتصادية، وإظهار دور المواطن الفاعل في تعديل السياسات الاقتصادية حتى في غياب تدخل الدولة المباشر.
المغرب في 2018 شهد تجربة مشابهة، حيث أطلق المواطنون حملات عبر فيسبوك ضد شركات الحليب والمياه المعدنية والوقود. لم تكن هناك قيادة مركزية أو أحزاب، لكن التحرك الشعبي المباشر كان كافيًا لإجبار الشركات على مراجعة سياسات التسعير لديها، ما يعكس قدرة المجتمع على فرض توازن اقتصادي حتى في غياب الرقابة الرسمية الصارمة.
السودان بين 2018 و2020، ظهرت لجان المقاومة في الأحياء لمواجهة أزمة الخبز والوقود. كان دور هذه اللجان تنظيم الطوابير، مراقبة التوزيع اليومي، وكشف المخالفات، حتى أصبحت سلطة شعبية بديلة في ظل غياب الرقابة الحكومية.
فنزويلا في 2016، أطلقت الحكومة برنامج CLAP لتوزيع المواد الغذائية الأساسية على الأسر بأسعار مدعومة، ما ساعد على مواجهة السوق السوداء وجعل هذه اللجان جزءًا من استراتيجية رسمية لضبط الأسعار، رغم وجود بعض الانتقادات بشأن التوزيع والفساد.
كل هذه النماذج تقدم درسًا واضحًا، المجتمع قادر على الرقابة، مواجهة جشع التجار، وفرض العدالة الاقتصادية عبر التنظيم الشعبي، المقاطعة، أو توزيع السلع بشكل مباشر.
وفي عدن واليمن اليوم، تشكل مبادرة الرقابة الشعبية لمراقبة الأسعار فرصة حقيقية لترجمة هذا الدرس إلى واقع. يمكن للجماهير تشكيل لجان محلية لمراقبة الأسواق، توثيق المخالفات، نشرها إعلاميًا، تنظيم بدائل تضامنية، واستخدام المقاطعة الشعبية كأداة ضغط.
فالرقابة الشعبية ليست بديلًا عن الدولة، لكنها وسيلة عملية لتحويل الغضب الشعبي إلى فعل منظم، يضمن للمواطن حقه في السلع بأسعار عادلة، ويثبت أن المجتمع قادر على التصدي والمواجهة، تمامًا كما فعل شباب تونس ومصر والمغرب والسودان في أوقات أصعب بكثير.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع