موت بطيء يسرق أرواح الأبرياء ..تزايد حالات الأصابة بالسرطان في تعز (الأسباب والتداعيات)

تم النشر بتاريخ 15 أغسطس, 2025

كتب/ لؤي الكمالي

تشهد محافظة تعز ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الإصابة بالسرطان خلال الأشهر الستة الماضية، حيث سجل مركز الأورام بالمحافظة أكثر من 900 حالة جديدة، وهو رقم صادم يستدعي تحركًا عاجلًا ومسؤولًا من جميع الجهات المعنية. تعكس هذه الأرقام أزمة بيئية وصحية معقدة ترتبط بتلوث الهواء الناتج عن الحرق العشوائي للنفايات، وتلوث المياه الجوفية، وانتشار الأدوية والمبيدات غير المرخصة، إضافةً إلى جودة الوقود المنخفضة وتأثيرات الحرب المستمرة.

يهدف هذا التقرير إلى تحليل العوامل البيئية والصحية التي تساهم في هذه الظاهرة الخطيرة، مستندًا إلى بيانات وتقارير محلية ودولية، كما يقدم توصيات عملية للتعامل مع الأزمة والحد من تداعياتها على المجتمع وصحة السكان.

تعاني المحافظة من تحديات متعددة في مجالات النظافة وإدارة النفايات والتلوث البيئي والمائي، إلى جانب انتشار المواد الكيميائية والأدوية المهربة، والتي تزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض السرطانية وتعرض حياة المواطنين لخطر مباشر. لذا، نؤكد على ضرورة تكاتف جهود الجهات المعنية لاتخاذ إجراءات فورية وفعالة تحمي صحة السكان وتحافظ على سلامتهم.

في تعز، تتحول أكوام القمامة المتكدسة في الشوارع لأسابيع إلى مصدر خطر قاتل، لا يقتصر فقط على الروائح الكريهة أو المنظر المزعج، بل يتجاوز ذلك إلى كونه منبعًا مباشرًا لمركبات سامة تنتج عن عمليات التحلل والحرق العشوائي.

في ظل عجز السلطات المحلية عن توفير منظومة فعالة لجمع النفايات، يلجأ الأهالي إلى إحراق القمامة، بما فيها المخلفات الطبية والبلاستيكية والعضوية، داخل الأحياء السكنية والسوائل وأحيانًا باستخدام سوائل مسرعة للاشتعال، مما يؤدي إلى انبعاث غازات شديدة السمية مثل:

الديوكسينات (Polychlorinated dibenzo-p-dioxins, PCDDs)

الفورانات (Polychlorinated dibenzofurans, PCDFs)

الفورمالديهايد (Formaldehyde, CH₂O)

البنزين (Benzene, C₆H₆)

الجسيمات الدقيقة (Particulate Matter PM2.5 و PM10)

المعادن الثقيلة مثل الزرنيخ (Arsenic, As)، الرصاص (Lead, Pb)، والكادميوم (Cadmium, Cd)

وهي مركبات صنفتها منظمة الصحة العالمية كمسرطنات مؤكدة.

تزداد الأزمة حدة مع قرب المحرقة الرئيسية (حدائق الصالح) من المدينة، حيث تسبب الانبعاثات الناتجة عن الحرق المكشوف للنفايات في معاناة صحية شديدة للسكان في المناطق المجاورة.

وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها عام 2017 بعنوان “كأنك تستنشق الموت” المخاطر الصحية لحرق النفايات في لبنان، حيث أظهرت أن الحرق في الهواء الطلق يؤدي إلى انبعاث مواد سامة ترفع من معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية والسرطان.

وأكدت الجامعة الأميركية في بيروت أن حرق النفايات يرفع من مخاطر الإصابة بالسرطان بسبب انتشار المواد المسرطنة في الهواء.

صرّح وزير الصحة اللبناني السابق، غسان حاصباني، عام 2018 بأن هناك أكثر من 150 موقعًا يُمارس فيه حرق النفايات أسبوعيًا، وأن الحرق العشوائي يزيد من احتمال الإصابة بأمراض الرئة بنسبة 200%، إضافة إلى ارتفاع معدلات سرطان القولون.

وفي 2023، كشفت تقارير صحفية عن ظهور “جبال من الأمراض” في مناطق جنوب لبنان بسبب حرق مكبات نفايات، مع تسجيل أكثر من 1000 حالة سرطان جديدة خلال عام واحد فقط.

سلط تقرير قناة الجزيرة “النفايات.. مخاطر صحية وبيئية” الضوء على التحديات البيئية والصحية التي تواجه المناطق المتضررة من تراكم النفايات، مشيرًا إلى المخاطر الناجمة عن حرق النفايات وتلوث الهواء وتأثيره الخطير على صحة السكان، بما في ذلك زيادة معدلات الأمراض التنفسية والسرطانية.

لوحظ في لبنان، بعد تطبيق خطة طارئة لإدارة النفايات، انخفاض معدلات الإصابة بالسرطان بنسبة 30% خلال عامين، ما يؤكد أن الحلول العملية والفعالة ممكنة.

ولا يقتصر التلوث على حرق النفايات فقط، بل تمتد خطورته إلى الانبعاثات الصناعية من المصانع القائمة في تعز، التي تصدر غازات ومركبات عضوية متطايرة ومواد كيميائية سامة تلوث الهواء والبيئة المحيطة، مما يفاقم أمراض الجهاز التنفسي والجلدي، ويزيد احتمالات الإصابة بالأمراض السرطانية، مع زيادة العبء الصحي على السكان.

يشير تقرير منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أن التعرض المستمر لمركبات الجسيمات الدقيقة (PM2.5 وPM10)، والديوكسينات، والمعادن الثقيلة الناتجة عن حرق النفايات والانبعاثات الصناعية مرتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب، والرئة، والسرطان، وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة، إضافة إلى تأثيرات سلبية على الجهاز العصبي والتناسلي.

تشير الدراسات إلى أن كل زيادة بمقدار 1 ميكروغرام/م³ في تركيز جسيمات PM2.5 الدقيقة ترتبط بزيادة في خطر الإصابة بسرطان الرئة بنسبة حوالي 0.8%، مما يعني أن كل زيادة بمقدار 10 ميكروغرام/م³ تُرفع خطر الإصابة بسرطان الرئة بنحو 8%، وفقًا لما نشره المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية (National Institutes of Health – NIH) ومجلة Nature العلمية. وهذا يعزز التحذيرات من مخاطر التلوث الجوي المستمر في تعز وضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة للحد منه.

ويؤكد التقرير ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة للحد من مصادر التلوث، وتحسين نظم إدارة النفايات، وتعزيز المراقبة البيئية لضمان صحة المجتمعات المتضررة.

يوجد عدد كبير من الآبار داخل المدينة وضواحيها، بعضها معرض للتلوث بسبب قربه من خزانات وخنادق الصرف الصحي، أو نتيجة تسرب المجاري إلى باطن الأرض بفعل التربة المفتوحة والشبكات المتهالكة.

تشير دراسة أكاديمية أُجريت في منطقة البريهي بمديرية التعزية بعنوان “Determination of Heavy Metals in Groundwater Around Al-Buraihi Sewage Station in Taiz City, Yemen”، والتي نُشرت في مجلة Journal of Health & Pollution عام 2021، إلى وجود مستويات مرتفعة من التلوث في التربة جراء تداخل شبكات الصرف الصحي وتسربها، وهو ما يشكل خطرًا مضاعفًا على صحة السكان، خاص وأن الصرف الصحي يجري بالشوارع خاصة في مدينة النور وبعض شوارع المدينة ولا يستبعد تسربها.

وقد تحدث تركيزات مرتفعة من مادة الزرنيخ (Arsenic, As) في عدد من آبار المحافظة، إلى جانب النترات (Nitrates, NO₃⁻)، الرصاص (Lead, Pb) والبكتيريا، وهي مواد مصنفة كمسرطنات مؤكدة من قبل منظمة الصحة العالمية، وتشكل تهديدًا مباشرًا لسلامة أجهزة الجسم، وخاصة الكبد والكلى والجلد. وتشير تقارير حديثة من قناة RT Arabic إلى أن وجود مادة الزرنيخ في المياه الجوفية يشكل خطرًا صحيًا كبيرًا بسبب تأثيره المسرطن خصوصًا على الكلى، حيث يتسبب التعرض المستمر لها في زيادة معدلات الإصابة بسرطان الكلى وأمراض مزمنة أخرى.

كما أن تأثيرات الحرب المستمرة على تعز قد يكون أدى إلى تلوث إضافي في البيئة، إذ تسبب القصف والاشتباكات في تسرب مخلفات ذخائر حربية تحتوي على معادن ثقيلة مثل الرصاص (Pb)، الكادميوم (Cd)، الزرنيخ (As)، الفسفور (Phosphorus, P)، ومواد كيماوية سامة إلى التربة والمياه الجوفية، مما يزيد من خطر التسمم والتأثيرات الصحية الخطيرة. ولا يستبعد استخدام أسلحة تحتوي على يورانيوم منضب (Depleted Uranium, DU) في بعض المناطق، خاصةً مع غياب الفحوص والدراسات البيئية الدقيقة من قبل الجهات المختصة مثل هيئة البيئة، مما يجعل التحقق العلمي من ذلك صعبًا حتى الآن.

وهذا مشابه لما حدث في مدينة الموصل بالعراق، حيث أظهرت دراسة بعنوان “Assessing Long-Term Post-Conflict Air Pollution: Trends and Implications for Air Quality in Mosul, Iraq” (2023) ارتفاعًا ملموسًا في تلوث البيئة. والكل يعرف أن مدينة الموصل العراقية هي الأكبر بمعدل الإصابة بالأمراض السرطانية بعد سنوات من القصف والدمار، نتيجة لتلوث التربة والبيئة بالمخلفات الحربية.

تشهد المحافظة أزمة خطيرة نتيجة تهريب كميات كبيرة من الأدوية والمواد الكيميائية، بما في ذلك المبيدات الزراعية التي حذرت منها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، منظمة الصحة العالمية (WHO)، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، عبر منافذ غير رسمية وغير مراقبة، مما يؤدي إلى دخول أدوية ومنتجات صحية غير مرخصة أو منتهية الصلاحية إلى السوق المحلية.

تُنقل هذه الأدوية في ظروف غير صحية، غالبًا بدون تبريد مناسب، مما يؤدي إلى تحلل مكوناتها وتكوّن مركبات سامة تشكل خطراً مباشراً على صحة المرضى، خصوصًا مرضى السرطان والأمراض المزمنة. وأكدت منظمة أطباء بلا حدود (MSF) في تعليماتها الخاصة بجودة وحفظ الدواء أن سوء التخزين والنقل، يؤدي إلى تدهور فعالية الأدوية، مما يزيد من خطر مضاعفات صحية وخسائر بشرية كبيرة.

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO) في تقريرها “Substandard and falsified medical products” (2023)، تصل نسبة الأدوية المزيفة أو منخفضة الجودة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل إلى نحو 10.5% من إجمالي الأدوية المتداولة، ويُرجح أن تكون هذه النسبة أعلى في بيئات النزاع مثل اليمن بسبب ضعف الرقابة وتوسع شبكات التهريب.

هذا التهريب لا يقتصر على الأدوية فقط، بل يشمل أيضًا المبيدات الزراعية الخطرة التي تدخل السوق دون رقابة أو فحوص مخبرية، مما يؤدي إلى تسرّب مركبات سامة مثل الباراثيون (Parathion)، الديازينون (Diazinon)، والميثوكسين (Methoxychlor) إلى البيئة والمزارع والمواد الغذائية، ويعرض السكان لخطر التسمم وتفاقم الأمراض المزمنة، ومنها السرطان.

وأبرز تقرير منظمة الشفافية الدولية “Corruption and health” (2022) الفساد المستشري والتهريب في قطاع الأدوية الذي يزيد من معاناة السكان ويهدد صحتهم.

تُعاني المحافظة كذلك من مشكلة حرجة أخرى تتعلق بجودة الوقود المستخدم في السوق المحلية، حيث لا توجد رقابة فعالة أو فحوص دورية تضمن نقاء هذا الوقود. غالبًا ما يحتوي الوقود المتداول، سواء المستورد أو المنتج محليًا خاصة الديزل، على ملوثات خطيرة مثل الرصاص، الكبريت، والجسيمات الدقيقة (PM2.5 وPM10)، التي تُعتبر من أبرز مصادر تلوث الهواء.

عند احتراق هذا الوقود الرديء الجودة، تنبعث غازات ضارة تشمل أكاسيد الكبريت (SOx)، مركبات الرصاص الثقيلة، والكربون الأسود، وهي مواد مسرطنة صنفتها منظمة الصحة العالمية (WHO)، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بارتفاع معدلات الإصابة بأمراض السرطان، لا سيما سرطان الرئة وسرطان الدم، إضافة إلى أمراض الجهاز التنفسي المزمنة.

يزيد من خطورة الوضع انتشار المركبات القديمة التي تفتقر إلى أنظمة فلترة العوادم، إلى جانب الازدحام المروري الكبير في أحياء المدينة، ما يؤدي إلى تراكم هذه الملوثات في الهواء الذي يتنفسه السكان يوميًا.

كما يؤدي نقص الفحوصات وعدم وجود معايير صارمة لفحص جودة الوقود في المحطات المحلية إلى تفاقم الوضع، حيث يظل السكان معرضين لخطر التعرض المستمر لهذه المواد السامة.

تشير دراسة منظمة الصحة العالمية “Air Quality and Health” (WHO, 2018) إلى أن التعرض طويل الأمد لمركبات الجسيمات الدقيقة وأكاسيد الكبريت والرصاص المرتبطة باحتراق الوقود الرديء الجودة تزيد بشكل ملحوظ من احتمالات الإصابة بسرطان الرئة وأمراض القلب والجهاز التنفسي.

وبناءً عليه، فإن وضع آليات رقابية صارمة لفحص جودة الوقود، والحد من تداول المشتقات النفطية الملوثة، والتوعية المجتمعية بخطورة الوقود الرديء، تمثل خطوات ضرورية للحد من انتشار هذه المخاطر الصحية الخطيرة في محافظة تعز.

ختامًا، تشكل محافظة تعز نموذجًا واضحًا للأزمات الصحية والبيئية التي تؤثر بشكل مباشر على حياة السكان بسبب التلوث المتعدد المصادر، من الحرق العشوائي للنفايات إلى تلوث المياه وانتشار المواد الكيميائية الضارة. رغم خطورة هذه التحديات، تفتقر المحافظة إلى الدراسات الميدانية الدقيقة والاهتمام الكافي من الجهات المعنية، مما يفاقم الوضع ويهدد مستقبل صحة المجتمع.
لذا، فإن الحاجة ملحة لإتخاذ إجراءات عاجلة والتزام الجميع بالمسؤولية والعمل المشترك هو السبيل الوحيد للحفاظ على صحة أجيال اليوم والغد، وبناء مجتمع قادر على مواجهة تحديات البيئة والصحة بحكمة وفعالية.

Left Menu Icon
الرئيسية