كازاخستان صوت القوة الناعمة في إعادة صياغة الدبلوماسية العالمية

تم النشر بتاريخ 26 يوليو, 2025

عبدالحميد حميد الكبي

في عالم يشهد تصاعد التوترات الجيوسياسية وتعقيدات التحديات العالمية، تبرز كازاخستان كنموذج متميز لدبلوماسية القوة المتوسطة. بفضل موقعها الاستراتيجي على مفترق الطرق بين آسيا وأوروبا، أصبحت جسرًا يربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب. تحت قيادة الرئيس قاسم جومارت توكاييف، تعزز كازاخستان مكانتها كلاعب عالمي يعتمد على التوازن والحوار والالتزام بالسلام. من خلال نهجها الدبلوماسي المرن، وساطتها في النزاعات، ودورها النشط في المحافل الدولية، تقدم كازاخستان نموذجًا ملهمًا للدول التي تسعى للتأثير في النظام العالمي دون الخضوع لضغوط القوى الكبرى.
حيث تعتمد كازاخستان سياسة خارجية “متعددة الاتجاهات” تمكنها من بناء علاقات متينة مع قوى عالمية متنوعة مثل الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. هذا النهج يضمن استقلاليتها السياسية ويقلل من الاعتماد على طرف واحد، مما يجعلها وسيطًا محايدًا موثوقًا. تحت قيادة الرئيس قاسم جومارت توكاييف، عززت كازاخستان هذا التوازن عبر تعزيز التبادل التجاري مع الصين، تعميق التعاون الاستراتيجي مع روسيا، وجذب استثمارات أوروبية، مما يعكس مرونة سياستها الخارجية وقدرتها على التعامل مع التحديات العالمية بذكاء وانفتاح.
وتكتسب كازاخستان مصداقية كبيرة كوسيط محايد في النزاعات الدولية. فقد استضافت “عملية أستانا” لمعالجة الأزمة السورية، حيث ساهمت في تقليل التصعيد وتيسير الحوار بين روسيا، تركيا، إيران، والأطراف السورية. كما قدمت منصة للحوار بين أرمينيا وأذربيجان لتخفيف التوترات حول ناغورنو كاراباخ. هذه الجهود تعكس التزام كازاخستان بتعزيز السلام العالمي من خلال الحوار بدلاً من المواجهة، مع تركيزها على نزع السلاح النووي والاستقرار الإقليمي.
لذلك تُظهر كازاخستان التزامًا بارزًا بالتعاون الدولي من خلال دورها النشط في منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، منظمة الدول التركية، ومؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا. كما تقود مبادرات مثل الصندوق الدولي لإنقاذ بحر الآرال والمنظمة الإسلامية للأمن الغذائي، مما يعزز مكانتها في الحوكمة العالمية ويبرز دورها كقوة متوسطة تسعى لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.
تعزز كازاخستان علاقاتها مع الدول العربية، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، من خلال تعاون اقتصادي وسياسي متين يقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. تسعى كازاخستان إلى تعزيز التبادل التجاري والاستثمارات مع دول مثل السعودية، الإمارات، وقطر، مع التركيز على قطاعات الطاقة، الزراعة، والتكنولوجيا. على سبيل المثال، تشارك كازاخستان في مبادرات مشتركة مع دول الخليج لتطوير الطاقة المتجددة وتعزيز الأمن الغذائي، مثل دعم المنظمة الإسلامية للأمن الغذائي. كما تستضيف فعاليات ثقافية ودبلوماسية لتعزيز التقارب مع العالم العربي، مما يعكس التزامها ببناء جسور تعاون استراتيجية تدعم الاستقرار والتنمية في المنطقة.
في مايو ويونيو 2025، استضافت كازاخستان النسخة الأولى من منتدى أستانا الدولي، الذي جذب أكثر من 4000 مشارك من مختلف أنحاء العالم. تناول المنتدى قضايا حيوية مثل تغير المناخ، أمن الطاقة، والابتكار التكنولوجي، تحت شعار “معالجة التحديات من خلال الحوار نحو التعاون والتنمية والتقدم” شكّل المنتدى منصة لتعزيز الحوار الشامل، حيث قدم حلولًا عملية لتحديات مثل الصحة العالمية والأمن الإقليمي، معززًا رؤية كازاخستان لتعزيز التعددية والتعاون الدولي.
كذلك يجعل الموقع الجغرافي لكازاخستان مركزًا حيويًا للتجارة العالمية، خاصة عبر الممر الأوسط (طريق النقل الدولي عبر بحر قزوين)، الذي يربط الصين بأوروبا. في عام 2023، نقل الممر 2.8 مليون طن من البضائع، بزيادة 90% عن العام السابق، وفي الأشهر التسعة الأولى من 2024، وصل الحجم إلى 3.4 مليون طن، مع توقعات ببلوغ 4.2 مليون طن بنهاية العام. هذه الأرقام تؤكد دور كازاخستان المتنامي في سلاسل التوريد العالمية، مما يعزز أهميتها ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية والبوابة العالمية للاتحاد الأوروبي.
ويُعد الشباب الكازاخستاني المتعلم والنشط ركيزة أساسية في تعزيز القوة الناعمة للبلاد. خلال فعاليات مثل منتدى أستانا الدولي، أظهر الشباب احترافية عالية في تنظيم الفعاليات الدولية. كما تعكس مدن مثل أستانا، ببنيتها التحتية الحديثة، رؤية مستقبلية تهدف إلى تمكين الجيل الجديد وتحويل كازاخستان إلى اقتصاد قائم على المعرفة، مما يعزز مكانتها كمركز عالمي للابتكار.
تدعو كازاخستان إلى إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مطالبة بتمثيل أكبر للقوى المتوسطة والدول الأصغر. تؤمن بأن السلام والتنمية المستدامة يتطلبان حوارًا شاملاً يراعي مصالح جميع الأطراف. هذا الموقف يعكس التزامها بالتعددية في مواجهة الاستقطاب العالمي المتزايد.
فمن خلال سياستها الخارجية المتوازنة، دورها كوسيط في النزاعات، وقيادتها متعددة الأطراف، تثبت كازاخستان أن القوى المتوسطة قادرة على تشكيل عالم أكثر استقرارًا وسلامًا. تجمع استراتيجيتها بين المصلحة الوطنية والمسؤولية العالمية، مقدمة نموذجًا يُحتذى به للدول الأخرى. في زمن تتصاعد فيه التحديات، تقدم كازاخستان رؤية مفعمة بالأمل مبنية على الحوار والتعاون، مؤكدة أن أي دولة، مهما كان حجمها، يمكنها إحداث تغيير إيجابي في بناء عالم مترابط ومزدهر.

Left Menu Icon
الرئيسية