تم النشر بتاريخ 16 يونيو, 2025
تحليل: حمدي ثابت
الشرق الأوسط على حافة التحول
“إيران ليست بهذا الغباء… ولا بهذا الضعف”
في كل حروب إيران المعلنة أو المستترة، هناك عنصر غامض يتكرر: تفوق عسكري ظاهر لصالح خصومها، مقابل نتائج سياسية وميدانية غير محسومة، إن لم تكن لصالح طهران. حدث هذا في العراق، في سوريا، في لبنان، في اليمن، وفي قطاع غزة، وها هو يتكرر في الحرب المفتوحة الأخيرة بين إيران وإسرائيل.
المفارقة الكبرى: أعلنت إيران في أول نصف ساعة من الحرب مقتل قائد جيشها وعدد من كبار جنرالاتها وعلمائها النوويين! وهو إعلان غير مسبوق، بل مخالف لكل قواعد الحرب النفسية والإعلامية، حيث أن الدول، في مثل هذه الحالات، تُنكر حتى الخسائر الصغرى حفاظًا على المعنويات… فما بالك بخسارة كهذه؟
فهل حقًا تخوض إيران هذه الحرب من موقع المهزوم؟ أم أن ما نراه هو “خدعة مدروسة” جزء من ترتيب أكبر؟ وهل طهران تحارب وحدها فعلًا؟ أم أن هناك طرفًا ثالثًا – أو عدة أطراف – تشاركها الحرب والتفاوض من خلف الستار؟
من السطح إلى العمق: ما الذي تراه إيران ولا نراه؟
في الظاهر، تبدو إيران محاصَرة، متخبطة، ومتهمة بدعم الإرهاب. لكن في العمق، هي تتحرك ضمن هندسة شراكات استراتيجية متعددة، تشمل:
روسيا، التي تعتمد على طائرات “شاهد” الإيرانية في أوكرانيا، وتوفر بالمقابل مظلة سياسية ولوجستية لإيران.
الصين، التي وقّعت مع إيران اتفاقًا استراتيجيًا لـ25 عامًا، وتبحث عن موطئ قدم في قلب الخليج العربي.
كوريا الشمالية، التي تشارك إيران أسرار الصواريخ الباليستية والتقنيات النووية بعيدًا عن الأعين الغربية.
تركيا، التي رغم تنافسها المصلحي مع إيران، تلتقي معها في إدارة فراغات النفوذ الأميركي داخل المنطقة.
هذه الدول ليست حليفة لإيران فحسب، بل تشاركها القلق الوجودي من الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على النظام العالمي. وهذا ما يجعل المعركة الراهنة أكثر من مجرد حرب بين دولتين، بل جزء من صراع محاور عالمي يعاد تشكيله على أرض الشرق الأوسط.
نقطة الخديعة: حين تبدو الضحية أقوى مما يُظن
منطق الحروب الحديثة تغيّر. الانتصار لم يعد يقاس فقط بعدد الصواريخ والقتلى، بل بقدرة الدولة على البقاء، على التحكم بالسردية، وعلى إعادة التموضع. وإيران تفوقت – للأسف – في هذا المجال.
لم يسقط النظام الإيراني رغم:
مقتل قاسم سليماني (2020).
اغتيال فخري زاده، أبرز علماء النووي (2021).
تفجيرات داخل منشآتها النووية.
اغتيالات غامضة طالت قيادات من حماس وحزب الله والحشد.
لم يسقط… ولم يتغير شيء فعلي على الأرض لصالح إسرائيل. بل إن إيران وسّعت نفوذها وزادت تعقيد المشهد الإقليمي. وهذا ما يدعو إلى سؤال محوري:
> هل تخدع إيران الجميع؟ أم أن هناك من يخدع معنا في هذا المسرح الدموي؟
“الحلقة المفقودة”: من الذي يقاتل نيابة عن من؟
ما يغيب عن التحليلات التقليدية أن إيران:
لا تخوض الحرب وحدها.
ولا تُهزَم وحدها.
ولا تنتصر وحدها.
هناك في العمق تفاهمات أمنية واستراتيجية بين طهران وكل من موسكو وبكين وأنقرة وبيونغ يانغ، تجعل الهزيمة مستحيلة إلا إذا انهار هذا التحالف الخفي.
هذه هي “الحلقة المفقودة”: إيران ليست دولة معزولة، بل ذراع عملياتية ضمن مشروع أوسع لإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، من أوكرانيا إلى غزة، ومن مضيق تايوان إلى اليمن وسوريا.
ولهذا… لم تنجح إسرائيل في إسقاط النظام الإيراني حتى مع اغتيال أهم قياداته.
ولم تتغير المعادلة في غزة رغم آلاف الشهداء.
ولم تُحسم الحرب في سوريا ولا في اليمن.
لأن كل هذه الملفات مرتبطة ببعضها البعض ضمن طاولة صراع دولي لم تكتمل أوراقها بعد.
توقيت الحرب: هل جاء بعد الضوء الأخضر؟
التصعيد بين إيران وإسرائيل لم يأتِ فجأة. بل تزامن مع… تفكك موقف واشنطن الداخلي بفعل الانتخابات وصعود اليمين.
حاجة روسيا إلى دعم إيراني أكبر في أوكرانيا.
سعي الصين لإشغال أميركا بحروب هامشية تعطل التفرغ لآسيا.
تصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي.
انسحاب تدريجي للنفوذ الغربي من المنطقة العربية.
كل ذلك يشير إلى أن ما نراه في هذه الحرب هو صراع “مضبوط الإيقاع” إلى حد معين. وإذا تجاوز ذلك الحد، فسنكون أمام حرب محاور دولية مفتوحة، تمهّد لنظام عالمي جديد.
الخلاصة: ليست حربًا بين إسرائيل وإيران… بل معركة على مستقبل العالم
إن من يُحلّل الحرب الإيرانية الإسرائيلية بمعزل عن روسيا والصين وتركيا وكوريا الشمالية، هو كالذي يُتابع شطرنجًا ويرى البيادق فقط دون أن يدرك من يُحركها.
هذه ليست حربًا عادية… بل اختبار لقوة التحالفات، وقياس لقدرة المحاور الكبرى على الردع، والتفاوض، وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية.
وطهران، بكل جبروتها، لا تقاتل وحدها. وإسرائيل، بكل عدوانيتها، لا تحارب فقط لأمنها، بل تحارب بالنيابة عن نظام عالمي آخذ في التآكل.
اليمن في قلب المعادلة
أما اليمن، فهو ليس مجرد ساحة خلفية لهذه الحرب، بل مفتاح في يد الأطراف المتصارعة:
فإيران تدير عبر الحوثيين سياسة الإرباك الاستراتيجي.
والسعودية والإمارات تحاولان حماية مصالحهما من التمدد الإيراني.
وأميركا تراقب الوضع كمؤشر على فعالية ردعها في الخليج.
لقد فشلت الشرعية اليمنية، حتى الآن، في:
نقل البنوك إلى عدن.
تأمين تصدير النفط والغاز من ميناء بلحاف والضبة.
إيقاف عبث الحوثيين في باب المندب والبحر الأحمر.
استعادة صنعاء والحديدة.
وكل ذلك لم يكن ممكنًا لولا وجود مظلة سياسية ودولية تشارك في رسم قواعد اللعبة، ما يؤكد أن اليمن ليس خارج السياق، بل في صلبه.
ولهذا فإن ما بعد الحرب سيضع اليمن في مفترق طرق خطير: إما أن يُدمج في مشروع الاستقرار، أو أن يُترك فريسة لتصفية الحسابات الكبرى القادمة.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع