تم النشر بتاريخ 5 أبريل, 2025
عبدالعزيز الحمزة
في خضم التحولات المتسارعة التي تجتاح العالم، وتحت وطأة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمزق أوصال الدول العربية، يبرز سؤال الهوية بوصفه أحد أخطر الأسئلة الغائبة الحاضرة، المؤجلة والمُلِحة في آنٍ واحد.
“من نحن؟” سؤال وجودي يتجاوز بعده الفلسفي ليطرح نفسه بوصفه ضرورة سياسية ومفتاحًا لمشروع النهضة والخروج من المأزق التاريخي الذي نعيشه.
نحتاج اليوم إلى تفكيك بنية الهوية العربية وقراءة عناصرها في ضوء السياقات الحضارية، لنكتشف أن أزمتنا الراهنة، في جوهرها، هي أزمة وعي بالذات، وضبابية في تحديد موقعنا من العالم.
الهوية: مفهوم مركّب وبناء متحرك
بعيدًا عن الرؤية الساذجة التي تتعامل مع الهوية كشيء ثابت أو جوهر ساكن، يقدم جاسم سلطان الهوية بوصفها بناءً ديناميكيًا يتشكل ضمن سيرورة تاريخية واجتماعية وسياسية.
إنها ليست صفة بيولوجية نولد بها، بل منظومة من الانتماءات والعلاقات والرموز والقيم، تتأثر بالعقيدة، و اللغة، و الثقافة، و التاريخ، والواقع المعيش.
في السياق العربي، تبرز الهوية بوصفها ساحة صراع بين مرجعيات متباينة: الدين، القومية، القُطرية، الحداثة الغربية، والموروث المحلي، وكلها تتجاذب الإنسان العربي في اتجاهات متضادة، مما يخلق حالة من التمزق الداخلي والاغتراب الوجودي.
الهوية المشروخة: بين الاستلاب والانكفاء
منذ انهيار الخلافة الإسلامية وتفكك العالم العربي إلى كيانات قطرية، عاش العرب حالة من الانفصام الهوياتي، حيث فُرضت نظم سياسية علمانية مستوردة في بيئات لم تُهضم بعد الحداثة، في وقتٍ غابت فيه النخبة القادرة على صياغة مشروع متكامل يعيد الربط بين المكونات الدينية، و الثقافية، و الوطنية، والإنسانية.
ومع تمدد العولمة الثقافية، تعرضت المجتمعات العربية إلى عملية استلاب تدريجي للذات، حيث باتت النماذج الغربية تُستنسخ بلا تمحيص، وأصبح الخطاب العام يدور بين حدين:
إما الانغلاق السلفي الرافض لكل تجديد
أو الذوبان في الآخر حد إنكار الذات
وفي كلتا الحالتين، ضاعت الهوية الجامعة، وتحولنا إلى جزر ثقافية متصارعة داخل الدولة الواحدة.
الهوية كمرتكز للنهضة الحضارية
تؤكد تجربة الشعوب الكبرى أن بناء الذات الجماعية لا ينفصل عن سؤال الهوية. فالنهضة لا يمكن أن تنبع إلا من داخل النسق الحضاري للأمة، ومن وعي ناضج بذاتها، لا من استعارة نماذج جاهزة.
إن الهوية كما يقول سلطان ليست ضد التطور، بل شرط له، إذا ما تم التعامل معها بوصفها حقلًا للتفاعل والتجديد، لا للتكرار والانغلاق.
فالهوية الناضجة هي تلك التي:
● تنفتح على الآخر دون ذوبان
● تتمسك بالثوابت دون جمود
● تعترف بالتعدد دون تنازع
● تربط الماضي بالحاضر والمستقبل برؤية حضارية واعية
وهذا يقتضي إعادة بناء منظومة القيم والرموز والمعاني التي تشكل المخيال الجمعي، لا على أساس التقديس الأعمى للماضي، بل بتوظيفه لصالح الحاضر والمستقبل.
الهوية والمواطنة: جدل التكامل لا التناقض
من أبرز مظاهر أزمة الهوية العربية اليوم هو الخلط بين الانتماء الديني والمواطنة السياسية، ما أنتج خطابات إقصائية تستثمر في الدين لتبرير احتكار السلطة أو تقويض الدولة الوطنية.
لكن الهوية الإسلامية، كما يؤكد سلطان، ليست نقيضًا للمواطنة، بل يمكن أن تكون إطارًا أخلاقيًا جامعًا إذا أُعيد فهمها على أساس الرحمة والعدل والتعدد، لا الهيمنة والاستعلاء.
وبالتالي، فإن بناء هوية وطنية جامعة لا يتم إلا من خلال:
● الاعتراف بحقوق المواطنة المتساوية
● تجاوز الانتماءات الضيقة )طائفية، جهوية…(
● وتأسيس دولة مدنية تُبنى على قيم الشورى والكرامة والعدالة
نحو استراتيجية للخروج من الأزمة
يقترح جاسم سلطان رؤية عملية لتجاوز المأزق الهوياتي العربي، تتمحور حول خمس ركائز:
1. التشخيص الواعي: الاعتراف بعمق الأزمة وعدم الاكتفاء بالحلول السطحية أو الخطابات العاطفية.
2. الاعتراف بالتعدد: التنوع داخل المجتمعات العربية واقع لا يمكن إنكاره، بل يجب تحويله إلى طاقة إثراء.
3. إحياء اللغة والذاكرة التاريخية: فبدون استعادة العمق اللغوي والرمزي لتاريخنا، نصبح لقمة سائغة للهيمنة الثقافية.
4. دمج الهوية في المشروع السياسي: الهوية ليست شأناً ثقافيًا فقط، بل يجب أن تكون ركنًا في مشروع الدولة والسياسات العامة.
5. إعادة بناء الوعي: عبر التعليم والإعلام، يجب خلق أجيال قادرة على فهم الذات والآخر في آنٍ واحد.
نحو يقظة حضارية شاملة
إن الإجابة عن سؤال الهوية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية ومقدمة لأي مشروع نهضوي. فبدون وعي جمعي بهويتنا، سنظل ندور في فلك الاستيراد والتبعية، وسنبقى نهدر الطاقات في صراعات داخلية لا منتصر فيها.
إن المطلوب اليوم هو يقظة حضارية شاملة تعيد بناء الوعي بالذات، وتُفعّل مقومات الهوية في خدمة المستقبل، لا كأداة للتقوقع أو التبرير، بل كمنطلق للتحرر والبناء.
ولعل هذا كتاب سؤال الهوية لجاسم سلطان – بسعته الفكرية وعمقه التحليلي – يقدم إطارًا نظريًا متماسكًا لنقاش عربي صادق حول من نحن، وإلى أين نمضي.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع