تم النشر بتاريخ 24 ديسمبر, 2024
المهندس حافظ قائد سيف
الفقر في اليمن لا يمثل مجرد مشكلة اجتماعية واقتصادية، بل هو أزمة سياسية تمتد تأثيراتها إلى جميع جوانب الدولة والمجتمع. يعيش نحو 80% من اليمنيين في فقر مدقع، يعانون من صعوبة في تلبية احتياجاتهم الأساسية، مثل الغذاء، الرعاية الصحية، والتعليم. الفقر في اليمن ليس مجرد أرقام وإحصائيات؛ إنه قصص مؤلمة لملايين الأسر التي تكافح يوميًا للبقاء على قيد الحياة، والتي تعاني من غياب أبسط حقوقها الأساسية. كل طفل ينام جائعًا هو تذكير صارخ بواجبنا الإنساني والسياسي لإحداث تغيير حقيقي، وكل أم عاجزة عن توفير العلاج لطفلها هي صوت يجب أن يسمعه الجميع.
وهذا الواقع المأساوي يخلق بيئة خصبة لتغذية القوى العسكرية والفصائل المسلحة، التي تستغل ضعف الدولة وتدهور الظروف المعيشية لجذب الدعم الشعبي. وبالتالي، يصبح الفقر ليس مجرد تحدٍ اقتصادي، بل أحد العوامل التي تؤثر في التوازن السياسي والاجتماعي في البلاد.
لكن كيف يمكن استغلال هذه الأزمة السياسية لمصلحة بناء دولة أكثر استقرارًا وقوة؟ الإجابة تكمن في تبني استراتيجية تركز على تلبية حاجات الفقراء. هذه الاستراتيجية ليست مجرد استجابة إنسانية، بل هي خطة سياسية تهدف إلى تحرير الدولة من الضغوطات الداخلية والخارجية. عندما تضع الدولة حاجات الفقراء في صميم أولوياتها، فإنها تبني رأس مال سياسي داخلي يعتمد على الدعم الشعبي، مما يعزز من استقلاليتها ويمنحها قوة أكبر في مواجهة التدخلات الأجنبية.
تلبية حاجات الفقراء لا تقتصر على تحسين أوضاعهم المعيشية، بل تساهم أيضًا في إعادة تعريف مفهوم الشرعية السياسية في اليمن. الشرعية في هذه الحالة لا تأتي من القوى الخارجية أو الدعم الدولي، بل من الشعب نفسه. الفقراء ليسوا مجرد أرقام في تقارير التنمية؛ هم بشر يملكون أحلامًا وآمالًا تنتظر فرصة للتحقق. عندما تلتزم الحكومة بتلبية احتياجات المواطنين الأساسية، فإنها تكتسب شرعية حقيقية وقوة شعبية تُسهم في إعادة بناء النظام السياسي في البلاد.
هذه القوة الشعبية تصبح العامل الحاسم في مواجهة القوى الخارجية التي تسعى للتلاعب بالقرار الوطني، كما تُسهم في تقوية الدولة داخليًا. من خلال تبني حاجات الفقراء كأولوية وطنية، يمكن إعادة تجميع المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة في اليمن. في ظل الظروف الحالية، حيث تزداد الانقسامات السياسية والمجتمعية، يصبح التوافق الداخلي أمرًا بالغ الأهمية.
عندما تركز الدولة على تحسين حياة الفقراء، فإنها تُعزز من التوافق الوطني، مما يقلل من الانقسامات الداخلية ويُسهم في بناء جبهة داخلية قوية قادرة على مواجهة التحديات. هذه الوحدة الوطنية تكون أساسًا لتحقيق استقرار سياسي طويل الأمد.
إن تلبية حاجات الفقراء تُسهم أيضًا في تعزيز قدرة الدولة على اتخاذ قرارات وطنية تُراعي مصلحة الشعب، بعيدًا عن الضغوط السياسية الدولية. من خلال هذه الاستراتيجية، تصبح الدولة أكثر قدرة على إدارة شؤونها الداخلية بكفاءة وفعالية، مما يعزز من قدرتها على بناء استقرار داخلي طويل الأمد.
القوة الشعبية المستمدة من تلبية حاجات الفقراء يمكن أن تكون بديلًا فعّالًا للقوة العسكرية. في ظل النزاعات المستمرة، تصبح الشرعية الشعبية هي القوة الحقيقية التي تمنح الدولة القدرة على اتخاذ القرارات السياسية الضرورية. هذه القوة لا تعتمد على القوة العسكرية أو القمع، بل على تلبية احتياجات الشعب بشكل عادل وشفاف، مما يعزز من قدرة الدولة على بناء استقرار داخلي طويل الأمد.
في هذا السياق، تعد الفرصة الحالية سانحة لتشكيل بيئة تمكينية واسعة تدفع المؤسسات إلى الإصلاح وتكتسب شرعية من خلال الاتكاء على حاجيات الناس. إذا ما استفادت الفصائل السياسية من هذه الفرصة، يمكنها أن تساهم في إعادة بناء الدولة وتعزيز استقرارها الداخلي. فالفرصة متاحة الآن لتوحيد الجهود السياسية والاجتماعية نحو تحقيق مصلحة الشعب، مما يسهم في تقوية المؤسسات الوطنية وتعزيز التوافق الداخلي.
إعادة ترميم المشهد السياسي والاجتماعي وفق نهج شامل:
من الضروري أن يكون هذا التحول مدعومًا بنهج يتبنى عملية ترميم المشهد السياسي والاجتماعي من الأسفل إلى الأعلى. هذا النهج يعتمد على الفهم العميق للاحتياجات المحلية وتمكين المجتمع من الرقابة والمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات. عبر تفعيل دور المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، يمكن تعزيز الشفافية والمساءلة، مما يعزز من فاعلية الحكومة ويقلل من الفساد. من خلال هذه الآلية، يُمكن خلق بيئة تمكينية للمجتمع المدني، مما يعزز الاستقرار الداخلي ويعطي الدولة القدرة على الاستجابة بسرعة وفعالية للتحديات التي تواجهها.
الاستثمار في تلبية حاجات الفقراء كاستراتيجية لبناء الدولة:
عندما ندرك أن الفقر في اليمن لا يقتصر تأثيره على الداخل فحسب، بل يمتد إلى الإقليم بأسره، فإننا نعي أن الاستقرار الإقليمي لن يتحقق إلا من خلال شريك يمني مستقر وقادر على بناء مؤسسات قوية. إن الاستثمار في تلبية حاجات الفقراء ليس مجرد التزام أخلاقي أو إنساني، بل هو استثمار في تحقيق المصالح المشتركة وضمان بيئة آمنة ومستدامة للجميع.
في النهاية، تلبية حاجات الفقراء ليست مجرد خطوة إنسانية، بل هي استراتيجية سياسية تهدف إلى بناء دولة قوية ومستقلة. من خلال تبني هذه الاستراتيجية، يمكن لليمن أن يعيد بناء قوته الداخلية، ويحقق استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا، ويُعيد تعريف الشرعية السياسية على أساس العدالة الاجتماعية. إن الاستثمار في حاجات الفقراء هو استثمار في مستقبل الدولة، الذي سيضمن لها القدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وتحقيق الاستقلالية والازدهار.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع