تم النشر بتاريخ 17 ديسمبر, 2024
محمد علي محسن
في نضال يدخل صاحبه طيز الحمار ، وفي نضال يرفع إلى برج عالي ، أو سلطة تشبه الغنيمة ، وفي نضال يفضي إلى العمالة والارتزاق ، ويجعل الواحد ينسي حالة البؤس والطفر ، ويلعن الأيام السوداء ..
وانا فهمت النضال من النوع الأول ، ولم استوعب بعد النضال الذي بدَّل حال الكثير وجعلهم أصحاب سطوة وثروة ونفوذ .
ولأن نضالي أخذ منحى مختلف عن نضال رفاقي ؛ فقد بقيت فخورا بهذه الصفة حتى وأن اعتبرها البعض شتيمة ولعنة .
فحين اذهب إلى مقهى الشاي ، وسط المدينة ، يستقبلني أصحابي بتحية اهلا ب ” المناضل ” . وطوال السنين الماضية كان للكلمة مفعول السحر ، ولها صدى يشبه الترنيمة في أذني ، فلم يكن بخلدي أبدًا ، أنه سيأتي يوم وتصير لعنة وإساءة .
ففي فترة وجيزة زاد أعداد المناضلين ، ومن فرط طغيان اسمائهم وأفعالهم المشينة ، أصبحت النَّاس تخشى على نفسها من النضال والمناضلين .
ولا الوم أحد ، فهناك من ارتقى بهم نضالهم ، فصاروا في عشية وضحاها أصحاب أموال ، وعقارات ، وشركات صرافة ، ومحلات ذهب ، ومصفحات وفلل وقصور .
بعض أصدقائي نصحوني بتبديل اللوحة ، أو قولوا شريحة الهاتف ، وقبلها طبعا ، تبديل اللهجة والشكل الخارجي ، بحيث أبدوا مناضل ثوري واقعي يشبه المناضلين الذين أكلوا الأخضر واليابس .
فمن وجهة نظرهم لابد من التغيير تماشيًا مع المرحلة ، إذ لا يعقل أن ابقي بنفس عقلية المناضل الذي لا نفع ذاته وأهله ، أو استفاد منه اصدقائه ، بل جلب لهم البلاء والمصائب دون فائدة .
حاولت أن أبيِّن لهم أن النضال انواع مثل مرض السكري أو السرطان ، فهناك الحميد والبسيط والصديق ، وهناك الخبيث والضار والقاتل ، لكنهم للأسف الشديد هزُّوا رؤوسهم ومضوا هازئين وساخطين .
وعندما رأى الشاب خالد موقف اصدقائي ، امسك بيدي وأشار علي بالجلوس ، أحسست أنه أقرب إلي من اترابي الذين جايلتهم عمرا مديدًا ، ومع ذلك غادروا المقهى خيبة وحنقا .
قال لي : هذا الشاي مخصوص لك ، تناوله ، وشوف كيف يعدِّل مزاجك ، ويهدِّي روحك ؟! “.
فرغ المكان من الزبائن ، فدعوت خالد للجلوس بجواري ، وما أن اقترب منصتا ، بادرته قائلًا :
” النضال قيمة معنوية ، صاحبه يتلبَّد المعاناة والإيثار في التضحية . أبا ذر الغفاري مات منفيًا في القفار ، ولحق به في مراحل تالية ، العالم الورع سعيد بن جُبير الذي قتله الحجَّاج ، ومات الإمام النزيه سفيان الثوري متشردًا ومخفيًا بسبب رفضه تولية القضاء في عهد جعفر المنصور وابنه المهدي .
وهناك من قتل أو نفي أو لبث حقبا في السجون ، لا لشيء أو ذنب غير قول ” لا ” في زمن طغى فيه ” نعم ” ، فما من إنسان حر وكريم يحب قيوده ولو كانت من ذهب ، فالحق والعدل والمساواة كلمات تؤذي الطغاة ، وفي أي زمان وتاريخ .
عمر المختار ، وعبد الناصر ، ومانديلا ، وغاندي ، وتشي جيفارا ، وهوشي منه ، وبوليفار ، وبن بيلا ، ولوممبا ، وسانغار ، ولبوزة والسلال وقحطان والحمدي وسالمين وووووالخ ، هؤلاء كانوا رموزًا وطنية وقومية ونضالية مدعاة للفخر والاعتزاز .
والآن تأمل حالنا مع النضال والمناضلين ، أضحت مفردة النضال غريبة ، شاذة ، مجرد بزة تشترى بدراهم ، مثلها مثل بزات ورتب العسكر في هذا الزمن الأغبر ، صفراء ، وحمراء ، وخضراء ، وفاقعة ، وفي المحصلة وسيلة للبطش والإرتزاق .
وما هو أكثر إساءة أن الكل يدَّعي النضال ، فنصرة الطغاة ومن لفظتهم شعوبهم صار نضالًا ، والجهر بالعمالة للخارج أضحى نضالًا ، والقاتل المأجور ، وناهب المال العام ، وتاجر الحشيش والممنوعات صاروا مناضلين ” .
وبعد أن تناولت فنجان الشاي ، وهممت بمغادرة المقهى ، قلت له :
اسمع يا خالد ، لا تناديني ب ” المناضل ” ، يكفي أن تقول من صباح الغد أهلا يا عم محمد ، وسأكون سعيدًا ، فلقد بات النضال سلعة رديئة لا تليق بكل إنسان همُّه وطنه ورخاء ناسه ” .
وفي اليوم التالي ، ذهبت إلى المقهى ، ارتشفت الشاي بلذِّة مختلفة عمَّا عهدته خلال الأعوام الفارطة . عدتُ للبيت والإبتسامة تكسو محياي رغم برد الشتاء الصفيق ، وعندها سألني حفيدي عمَّا اضحكني ؛ فقلت له منتشيًا : الحمد لله جَدَّك لم يعد من زُمرة المناضلين “.
مركز مسارات للإستراتيجيا و الإعلام موقع اخباري متنوع