تم النشر بتاريخ 29 أكتوبر, 2024
” لن يصلح الحال بذهاب بن دغر ومجيء بديله ؛ لأن المشكلة أكبر وأعقد من أن يتم اختزالها بتغيير وزير أو رئيس حكومة ” .
قلت هذا الكلام في وقت تحاصر فيه جموع المتظاهرين قصر معاشيق حيثما يتواجد الدكتور أحمد بن دغر وعدد من وزرائه ومرافقيه .
اليوم أجدني اذكِّر المطالبين برحيل بن مبارك – وأغلبهم كانوا من أشد المطالبين بتغيير بن دغر ومن ثم مُعين – بإن الأزمة لن تعالج باستبدال رئيس حكومة ، فمثل هذا التوصيف أعده قاصرًا ومنافيًا لجوهر الأزمة التي تنخر كيان السلطة الشرعية منذ تحرير أول محافظة قبل عشرة أعوام .
وما لم نضع يدينا على مكمن الأزمة سنظل نعاني ، وجهودنا مستنزفة في معارك ثانوية وبلا منتهى ، فالواقع أننا إزاء سلطات عدِّة ، بل قولوا دويلات مختلفة ومتصادمة مع بعضها البعض ، وكل دويلة لها قادة وقوة وغاية وأتباع متعصبين ، وموارد مالية مبددة على ألوية وإعلام وقيادات وقوات ووالخ .
كل جماعة سخَّرت الدعم والموارد وما توافر لها من تركة الدولة المفقودة لأجل تجسيد سلطة وسطوة ونفوذ ، ظنًا منها أنها الأجدر والاذكى في بلورة رؤيتها ومشروعها ، والحقيقة المُرَّة أن جميعها تُركت أعوامًا تخوض معارك دانكشوتية ، من أجل غاية شخصية فئوية أقل وأدنى من أن تكون مجسدة لغاية جمعية سيعود نفعها عاجلًا أو آجلًا على اليمنيين جميعًا .
لدينا في العاصمة المؤقتة ” عدن ” وجوارها سلطة الإنتقالي ، وفي مأرب سلطة ما بقي من كيان محسوب على الشرعية وثورة ١١ فبراير المُطيحة بالرئيس صالح . وفي المخأ سلطة مناهضة لكل ما يمت بصلة لعهد الرئيس هادي وثورة ١١ فبراير .
ووسط هؤلاء سلطة شرعية لا حول لها ولا قوة ، ليس لديها القدرة على حماية ذاتها ؛ فكيف لها إدارة دولة وهي عاجزة عن أداء وظيفتها وتجسيد سلطتها ؟ فالرئاسة في الواقع أضعف من أن تسيطر وتقرر وتقود وتحاسب في ظل هيمنة الجماعات المشكِّلة لها .
هذه السلطة الشرعية يمكن القول أنها جامعة لكل المتناقضات ، تكوينها الغريب يضم أطرافًا متصارعة ومتنافرة فلكل طرف له رؤية وغاية تتصادم جوهريًا مع رؤية وغاية من يفترض أنَّه يمثل السلطة الشرعية .
وقبل هذه المكونات ، هناك سلطة فاعلة ومؤثرة وبيدها مفاتيح وأقفال كانتونات السلطة الشرعية مجتمعة ، وأعني سلطة التحالف ، وهذه السلطة رأسها في الرياض وذراعيها في أبو ظبي ، سلطتان بما لديهما من مال وأتباع وغايات مختلفة ، لكنها بكل تأكيد غايات اقل وأبعد من أن تكون جنوبية أو يمنية .
وأغرب ما في الأمر ، أنَّ الأطراف الأربعة معتمدة كليًا على
التحالف السعودي الإماراتي تحديدًا ، وبدلًا من تسخيرها لتلك الموارد المالية والعسكرية واللوجستية في جبهة واحدة هدفها استعادة الدولة والقضاء على المليشيات الحوثية المنقلبة على الدولة اليمنية ؛ كل مكون استغل الدعم المالي والعسكري لأجل أجندته السياسية وبما يخدم نفوذه وسيطرته .
الدعم السعودي الإماراتي لقادة وسلطات موازية أسهما وبشكل مباشر وكبير في إضعاف السلطة الشرعية ووضعها في العراء ودونما حماية أو غطاء .
وأكثر من ذلك إذ تم تجريدها من ادواتها وصلاحيتها ، بحيث أن هذه السلطة الشرعية تجلَّت منزوعة الاظافر والأسنان ، ما يعني فقدانها لأهم عامل وهو القوة التي بها يمكن السيطرة وتجسيد مظاهر نفوذها .
وإذا كان الرئيس الأسبق عبد ربه منصور هادي بقي منفيًا في الرياض معظم الأعوام التالية لتحرير العاصمة المؤقتة عدن ؛ فإن خلفه الرئيس العليمي الآتي إلى السلطة وفق اتفاق تبنته ورعته السعودية ، لم يستطع مزاولة مهامه كرئيس توافقي لمجلس رئاسة مكون من ثمانية أعضاء ، أربعة يمثلون الجنوب ومثلهم يمثل الشمال .
كان الإعتقاد السائد بأن المشكلة كامنة بالرئيس هادي ونائبه الفريق علي محسن ، اللذين لم يفلحا بالسيطرة على الأوضاع الإقتصادية والعسكرية والأمنية ، وغالبًا ما تم حمل الحكومات اسباب الفشل في المحافظات المحررة .
وعلى هذا الأساس تم إزاحة الرئيس ونائبه في أمسية رمضانية لم تكن بخلد معظم الاعضاء المشاركين الذين تم جلبهم من الداخل والخارج ، بل الرئيس ذاته فوجئ بما أعد له من سيناريو ، فكان أن رضخ وبضغط قوي من البلاط الملكي السعودي فكان شرطه الوحيد أن يكون العليمي خلفًا له .
ولأن المشكلة هنا ليست برئيس أو حكومة ، بقدر ما هي بتعدد القادة العسكريين والسلطات الممنوحة لهم ، وكذا بالغايات التي يسعون لتحقيقها ، فلم تمض غير أيام واسابيع على تفاؤلات اليمنيين بتحسن حالهم ، وإذا بكل طرف في المجلس الرئاسي أضحى عبئًا ثقيلًا ومعيقًا لعمل الرئاسة والحكومة .
عادوا جميعًا لمزاولة نشاطهم السابق وبمعزل عن مهامهم وفق اتفاق الرياض ، فبدلًا من يمثلوا كتلة واحدة تمثل السلطة الشرعية في اليمن ، انتهجوا طريقًا وأدوات فئوية مقوية لمراكزهم ومضعفة للرئاسة التي هم جزءًا منها ، كما ومضعفة للحكومة التي توافقوا عليها وكان مزمعًا أن تكون مجسدة لأهداف وخطط وبرامج مجلس القيادة الرئاسية .
ونتيجة لهذه المكونات المتناقضة والمتصادمة في واقع الممارسة ، فكل رؤساء الحكومات لم يتمكنوا من مزاولة نشاطهم المعتاد والطبيعي لأي حكومة بالعالم ، بل إنهم جميعًا فشلوا فشلا ذريعًا بسبب أن كل جماعة عملت على ان تكون الحكومات مجرد واجهة لتمرير أجندتها وبما يقوي ويعزز نفوذها .
ولا يعني أنَّ من تم إقالتهم غير أكفَّاء ، وإنَّما نتيجة لفقدانهم السيطرة على مجمل الحالة ، وإذا كان هناك من مأخذ على رؤساء الحكومات فذلك أنهم آثروا البقاء على حساب سمعتهم وآهليتهم .
السؤال الان : هل سيكون احمد عوض بن مبارك كبش الفداء للحلفاء الأعداء الذين لم يتمكنوا من الإنتقال من وضعية العداوة والخصومة إلى مصاف شركاء الضرورة ؟ .
بن مبارك شخص عنيد ، وسبق أن شغل مدير مكتب رئيس الجمهورية ، منصب سفير اليمن في واشنطن منذ العام ٢٠١٥م ، سفيرا غير مقيم في البرازيل والمكسيك والأرجنتين ، ممثلًا دائمًا لليمن في الأمم المتحدة عام ٢٠١٨م ، وزيرا للخارجية وشؤون المغتربين ديسمبر ٢٠٢٠م إلى أن كُلِّف برئاسة الحكومة ٥ فبراير المنصرم .
وبسبب خلفيته المحسوبة على الرئيس هادي ، وكذا ثورة ١١ فبراير ٢٠١١م ومواقفه السياسية المعلنة سابقًا المتبنية للدولة الاتحادية الفيدرالية ، فضلا عن طبيعة شخصيته النازعة لإثبات وجوده ورفض الاملاءات غير منسجمة مع رغباته أو وظيفته ؛ كان ولابد أن يبرز فقدان الإنسجام بينه وبين مجلس القيادة ، أو بينه وبين أعضاء حكومته .
فلم تمض الأشهر الأولى على توليه منصبه إلَّا والخلاف محتدم ووصل إلى وسائل الإعلام الموالية للمكونات المشكِّلة للرئاسة والحكومة ، وهي ذات الرسائل الموجهة ضدًا على رؤساء الحكومات المقالة ، الفارق هنا فقط أن الرئاسة كانت متوافقة مع رؤساء الحكومات السابقة.
عمومًا أُذكِّر هنا المطالبين بسرعة التغيير لأحمد بن مبارك بإن الإتيان ب ” مهاتير محمد ” أو ” كاغامي ” لن يحل الأزمات المتفاقمة ، الاقتصادية والخدمية والعسكرية .
المشكلة سياسية وجوهرها الرئاسة بمكوناتها المختلفة والمتصادمة ببعضها فكرة وغاية وأداة وأداء .
حالنا يماثل ذاك المهدر لجهده ووقته في محاولات بائسة لتقييم ظل العصا بدلا من تقييم العصا المعوج أصلًا ، انهكنا أنفسنا في معارك عبثية ، فكان ولابد أن ينهار الاقتصاد ، وما ترتب عنه من مشكلات خدمية وحياتية .
وما لم تكن هناك سلطة واحدة ، وغاية واحدة ، وجبهة واحدة ، وقرار واحد ، يستحيل أن تنجح أي حكومة مهما كانت كفاءتها أو براعتها في إرضاء كافة الأطراف .
نعم ، لن تكون الحكومات القابلة افضل من سابقاتها ، فلن تتحسن الأوضاع الإقتصادية ، ولن يستقيم حالنا إلَّا في حالة واحدة لا سواها ، سلطة واحدة غايتها استعادة الدولة اليمنية على كل مساحة اليمن ، غير ذلك مغالطات وتضليل والمزيد من الإخفاق والفشل .
محمد علي محسن
كاتب وروائي يمني