تم النشر بتاريخ 9 أكتوبر, 2024
بيسان عدوان
الهدف الإخبارية – فلسطين المحتلة
قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعوة مليون ونصف يهودي روسي للعودة إلى روسيا، وإسقاط الجنسية الروسية عن الطيارين الإسرائيليين من أصول روسية، هو رسالة صريحة إلى العالم تقلب معادلات الصراع في الشرق الأوسط رأسًا على عقب. في لحظة تاريخية تتسم بتشابك المصالح وتصاعد نيران الحرب الإقليمية بين إيران ودولة الاحتلال، يظهر بوتين كلاعب محوري يحرك المشهد وفقًا لاستراتيجياته في مواجهة الغرب وتحالفاته في المنطقة.
إن دعوة اليهود الروس للعودة لا تنفصل عن الإرث السوفييتي الذي يسعى بوتين لإحيائه، محاولاً إعادة بناء قاعدة سكانية وعلمية يمكنها أن تدعم طموحات روسيا في مواجهة الهيمنة الغربية. هذه الدعوة تفتح الباب على مصراعيه لتفكيك الروابط الإسرائيلية-الروسية، وتزيد من تعقيد المشهد الإقليمي المتأزم بعد ضرب قاعدة حميميم في سوريا.
اليهود الروس: بين الولاء المزدوج وحسابات السياسة
اليهود الروس الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلة يشكلون واحدة من أهم المجموعات السكانية ذات التأثير الكبير في بنية المجتمع الصهيوني. بين عامي 1990 و2000، هاجر حوالي مليون يهودي من الاتحاد السوفييتي المنهار إلى إسرائيل، وهو ما يشكل نحو 15-20% من إجمالي سكان دولة الاحتلال اليوم. هذه المجموعة الكبيرة لم تكن مجرد هجرة بشرية، بل تمثل مجموعة نوعية من العقول المتميزة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة. وقد وجد هؤلاء اليهود الروس دورًا محوريًّا في بناء المؤسسات الإسرائيلية، وخاصةً في القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا العسكرية، الصناعة، والتعليم العالي.
اقتصاديًا واجتماعيًا، اليهود الروس ينتمون إلى طبقة متنوعة. في البداية، واجه العديد منهم تحديات كبيرة للاندماج في المجتمع الإسرائيلي بسبب اللغة والاختلافات الثقافية. ومع ذلك، نجح العديد منهم في التأقلم وصعدوا في السلم الاجتماعي ليصبحوا جزءًا من الطبقة الوسطى والعليا. اليوم، يشغلون مناصب عليا في الشركات الكبرى، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة (الهايتك)، ويؤثرون في صناعة القرار الإسرائيلي.
أماكن تجمع اليهود الروس تتركز في مدن مثل تل أبيب وحيفا، حيث يوجد تجمع كبير للعلماء والمهاجرين الذين انخرطوا في الأوساط الأكاديمية والتكنولوجية. في الوقت نفسه، توجد تجمعات لهم في مدن الجنوب، حيث يسكن بعضهم في المجمعات السكنية الفقيرة والمناطق النائية، مما يعكس التباين الطبقي داخل هذه المجموعة.
تداعيات القرار: تصدع في العلاقات وشراكات جديدة
قرار بوتين يتزامن مع لحظة إقليمية خطيرة. الحرب التي تدور رحاها الآن بين إيران ودولة الاحتلال لم تعد مجرد مواجهة محدودة، بل هي جزء من صراع إقليمي شامل يعيد ترتيب الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. إيران، التي لطالما شكلت تهديدًا استراتيجيًّا لإسرائيل، تجد في روسيا حليفًا يوازن بين دعمها والمصالح الإقليمية الأخرى. ومن هنا، يمكن قراءة قرار بوتين على أنه محاولة لتأمين موقع استراتيجي أفضل لروسيا في ظل تصاعد حدة الصراع الإقليمي.
التداعيات على إسرائيل ستكون عميقة. اليهود الروس في دولة الاحتلال ليسوا مجرد مهاجرين، بل هم قاعدة انتخابية وسياسية مؤثرة. خروجهم المحتمل إلى روسيا سيخلق فراغًا ديموغرافيًّا، ولكنه أيضًا سيعيد تشكيل الديناميات السياسية داخل الدولة العبرية. حكومة نتنياهو، التي لطالما اعتمدت على دعم هذه المجموعة، قد تجد نفسها أمام تحدٍ داخلي يعزز من الاضطرابات السياسية.
وعلى الصعيد الدولي، قد يؤدي هذا القرار إلى تصعيد التوتر بين روسيا وإسرائيل، خاصة إذا استمر الطيارون الإسرائيليون من أصول روسية في المشاركة في العمليات العسكرية ضد المصالح الروسية وحلفائها في سوريا. القرار الروسي يشير إلى أن بوتين لن يتسامح مع أي تهديد مباشر لقواته في المنطقة، خصوصًا في ظل الاشتباكات المستمرة مع إسرائيل.
اليهود الروس والاقتصاد الإسرائيلي: القوة الخفية
اليهود الروس يلعبون دورًا محوريًا في الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة والصناعات الدفاعية. نسبة كبيرة منهم يعملون في الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا التي جعلت من إسرائيل “وادي السيليكون” في الشرق الأوسط. كما أنهم متواجدون بكثافة في الجامعات الإسرائيلية ومراكز البحث والتطوير، مما يعزز مكانتهم كقوة اقتصادية وعلمية داخل إسرائيل.
الاستثمارات الأجنبية في قطاع التكنولوجيا والابتكارات الدفاعية في إسرائيل تأثرت بشكل كبير بتلك الكفاءات الروسية، التي جلبت معها خبرات متقدمة من الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، فإن قرار بوتين بإعادة هؤلاء إلى روسيا قد يعني تخفيضًا كبيرًا في تلك الخبرات والكوادر، مما قد يعيد ترتيب أوراق الاقتصاد الإسرائيلي ويضع تحديات جديدة أمامه في الحفاظ على تفوقه التكنولوجي.
نحو شرق أوسط جديد؟
إعادة ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط لم تعد مجرد سيناريوهات افتراضية، بل واقع يتحقق أمام أعيننا. الحرب الإقليمية التي تقودها إيران ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي هي جزء من هذه العملية، وروسيا تلعب دورًا محوريًّا في تحديد ملامح المرحلة المقبلة. قرار بوتين بدعوة اليهود الروس للعودة وإسقاط الجنسية عن الطيارين هو بداية لتفكيك العلاقات التي كانت تعتبر ثابتة بين موسكو وتل أبيب.
هذا القرار يعكس تحولًا جذريًّا في رؤية بوتين للعالم، فهو يسعى لبناء نظام عالمي جديد ينهي هيمنة الغرب على الشرق الأوسط، ويعزز مكانة روسيا كلاعب رئيسي في هذه المنطقة المضطربة. من هنا، يمكن القول إن روسيا لم تعد تكتفي بدور المراقب، بل أصبحت طرفًا مباشرًا في الصراع، يحدد ملامحه ويصوغ مساراته.
في ضوء هذه التحولات، يبدو أن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة من المواجهة بين القوى الإقليمية والدولية، مرحلة تكتب روسيا فيها فصلًا جديدًا من تاريخ المنطقة، بينما تستعد إسرائيل لمواجهة عواقب قرارات كانت تعتقد أنها لن تمس استقرارها الداخلي، ليأتي بوتين ويغير قواعد اللعبة.