اللحظة الفلسطينية في الموقف اليمنيّ غير الرسمي: قيم الأمة على محك «نكون أو لا نكون»

تم النشر بتاريخ 22 أكتوبر, 2023

صنعاء ـ «القدس العربي»: لا يوجد جرح عربي مهما كان شأنه يعلو على الجرح الفلسطيني، هكذا قال الموقف الشعبي العربي في تظاهراته التي اجتاحت معظم البلدان العربية؛ بما في ذلك اليمن؛ هذا البلد الفقير الذي نالت منه الحرب ما نالت، وصارت تتقاسمه سلطات عديدة، وبلغ فيه العيش مبلغًا صعبًا؛ لكنه عندما تجدد النزف الفلسطيني انتفض متوحدًا متجاوزًا ثلمه المفتوح، مجددًا تضامنه مع الشعب الفلسطيني وتأييده لمقاومته الباسلة.

كأن كل جراح اليمن شُفيت؛ فلم يعد ثمة شاغل وطني يؤرقهم بعدما طغى الحزن الفلسطيني على ما سواه؛ كديدن اليمنيين، مثل غيرهم من العرب، في علاقتهم بالقضية الفلسطينية؛ فجميع مدن البلاد تمددت شوارعها، وهي تحاول امتصاص جموع المتظاهرين، الذين تدفقوا من كل الجماعات والألوان، أغلبهم بسطاء تعوزهم لقمة العيش، لكن قهر العجز دفعهم للخروج باعتباره المتاح، وهم يستحضرون مشاهد الجثث والدماء واشلاء النساء والأطفال، في ظل صمت وتواطؤ غربي أشعرهم بالخزي كجيل لم يألف هذا الانكسار؛ فكان الحزن على فلسطين أكبر مما تكدس في صدورهم من ركام أحزان بلدهم المحترب. انتفض اليمنيون في معظم المدن حزنًا على ضحايا مجزرة المستشفى وسط غزة وتنديدا بالجريمة، التي تعكس حال الوحشية الإسرائيلية على مدى تاريخ الاحتلال، في موقف يتجاوز الموقف الرسمي بكثير؛ وهو الموقف الذي حاولنا الاقتراب منه من خلال مناقشته مع عدد من قيادات المجتمع المدني هناك؛ والتعرف إلى قراءتها للحظة الفلسطينية الراهنة.

نكون أو لا نكون

يقول أمين عام حزب التجمع الوحدوي اليمني (يسار) عبدالله عوبل، وهو وزير ثقافة سابق، إن ما يجري حاليًا «لحظة حاسمة في تاريخ الأمة العربية والقضية الفلسطينية؛ فأما نكون أو لا نكون». وأردف متحدثًا إلى «القدس العربي»: «ليس الفلسطينيون هم المستهدفون فقط، أن إسرائيل تؤمن بدولة من البحر إلى النهر، والحروب الحالية التي يقوم بها الإسرائيليون والأمريكيون تقوم على جذور دينية. أما العرب فما زالوا في بؤرة الاستراتيجية الأمريكية، وهمُّ الذين عليهم أن يُخلوا أراضيهم للمحتلين الجدد».
وأشار إلى أن «القادة العرب والحكومات العربية لا تدرك خطورة اللحظة. إنها لحظة حاسمة ستغيّر المنطقة، وإلا لماذا قدوم الأساطيل الأمريكية والبريطانية؟ هل من أجل حماس؟! أن إسرائيل تملك من الأسلحة المتطورة والممنوعة على الدول العربية ما يكفي لمحاربة الدول العربية، وليس فقط حماس».
ودان عوبل ما تقوم به إسرائيل من عدوان وجرائم وحشية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وقال: «إن إسرائيل تتحدى القانون الإنساني الدولي، وأمام سمع وبصر العالم كله ترتكب جرائم إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتعاقب جماعيًا الفلسطينيين عندما تمنع عنهم الماء والغذاء والكهرباء والدواء، وكل ما هو ضروري للحياة».
واستنكر الدعم الأمريكي والأوروبي لجرائم الاحتلال. وقال: «إن إسرائيل تعاقب الفلسطينيين بأبشع الأساليب العدوانية، وبدعم صريح وواضح من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول أوروبية أخرى. إنهم يمنحونها تصريحًا بالإبادة الجماعية بسبب ما قيل إنه هجوم فلسطيني لكتائب القسام وفصائل المقاومة على بعض القواعد العسكرية الإسرائيلية والمستوطنين المسلحين داخل الأراضي المحتلة».
وأضاف: «أن هذه الدول، التي تقف إلى جانب إسرائيل، لم تدن يومًا المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين منذ 75 عامًا. لقد ارتكبت إسرائيل مجزرة بحق الفلسطينيين قبل نحو شهر فقط من عملية السابع من تشرين الأول/ اكتوبر الجاري، وارتكبت مؤخرا مجزرة بحق مستشفى في غزة في جريمة بشعة؛ ولكن العالم لم ينبس ببنت شفه لإدانة إسرائيل».
وأكد: «إنها سياسة الكيل بمكيالين، لقد جعلوا إسرائيل فوق القانون الدولي؛ وبالتالي هي ترتكب أبشع الجرائم بحق المدنيين في الضفة والقطاع والقدس بتشجيع من أمريكا. كما أن صمت الحكومات العربية والبيان البائس لجامعة الدول العربية مخزٍ؛ إذ لم يذكر حق المقاومة للاحتلال، الذي تجيزه كل القوانين والأعراف الدولية».
وأضاف: «أن الدمار والإبادة الشاملة التي تقوم بها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر الجاري والحصار القاسي ما هو إلا وسيلة للتخلص من سكان قطاع غزة. أما أن يموتوا جميعًا أو يُهجّروا إلى مصر. واضح أن إسرائيل تُمارس الطرد الأخير للفلسطينيين بعد التهجير منذ العام 1948».
وجدد أمين عام حزب التجمع الوحدوي اليمني، استنكاره لموقف المجتمع الدولي، قائلًا: «إن المجتمع الدولي لا يُقدّم للفلسطينيين أي أمل في قيام دولتهم وفق قوانين الشرعية الدولية، وفي نفس الوقت يسكت الآن إزاء تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على القطاع والضفة».
لكنه عاد، وقال: «إن الأمل معقود على الشعوب العربية التي خذلها حكامها، باعتبارها قادرة على فعل ما يُقدّم للفلسطينيين إسناداً حقيقياً ودعمًا واضحًا لرفض الإجراءات الإسرائيلية بتفريغ الأرض من أهلها. إن على العرب أن يضغطوا على حكوماتهم للوقوف إلى جانب الفلسطينيين، ومنع محاولة إبادتهم أو تهجيرهمً».

المعركة

نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق، الكاتب والمفكر، عبدالباري طاهر، يرى أن طرد الشعب الفلسطيني من أرضه هو أساس مساعي الكيان الغاصب، معتبرًا أن معركة فلسطين الحالية ستقرر مصير الاحتلال الاستيطاني.
وقال لـ «القدس العربي»: «للأسبوع الثاني على التوالي تدفع قوات الاحتلال الإسرائيلي بكل جيشها وأمنها ومئات الآلاف من احتياطيها للإطباق على غزة التي لا يزيد سكانها عن مليونين وثلاثمئة ألف غالبيتهم من الأطفال والنساء والمسنين».
وأضاف: «دولة الاحتلال الاستيطاني، منذ التأسيس، بناها جيش آتٍ من عصابات شهيرة: الهغاناه، والأوجون، وشيترن، وهي الدولة شبه الأولى في العالم التي بناها جيش آتٍ من بلدان أوروبية في الغالب الأعم، وهي أيضًا الأولى في العالم الوافد شتاتها من بلدان وأمم مختلفة باسم العقيدة اليهودية القائمة على خرافة أرض الميعاد وأكذوبة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
واستطرد طاهر: «تمت هجرة الملايين الآتين من أوروبا ومناطق مختلفة، ومن البلدان العربية منتصف القرن الماضي ضمن المخطط الصهيوني منذ مؤتمر بازل 1879 ووعد وزير خارجية بريطانيا بلفور 1917 وعمالة الأنظمة الرجعية المرتبطة بالاستعمار البريطاني والفرنسي منذ قيام الكيان الإسرائيلي عبر حرب 1948 وحرب 1956 ضد مصر، فيما عرف بالعدوان الثلاثي، وحرب 1967».
وأشار النقيب الأسبق للصحافيين اليمنيين، إلى أن «طرد الشعب الفلسطيني من أرضه هو الأساس منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي على فلسطين، وظل قائمًا ومتواصلاً».
وقال: «الحرب الأخيرة منذ بداية هذا العام، وتشكيل حكومة اليمين التوراتي الأشد تطرفًا وعدوانية- بدأت في الضفة، وباجتياح المدن الفلسطينية بما فيها القدس، وتوسيع المستوطنات، وقتل ما يزيد عن ألف فلسطيني في بضعة أشهر، واستباحة ما سُمي مناطق ألف وباء التابعة للسلطة الشكلية عديمة الحيلة والأسيرة للأمن الإسرائيلي، وهمجية قطعان الاستيطان، وتزايد الحصار والتهديد لغزة، وإحراق المدن، وتهديمها على رؤوس ساكنيها- تلكم مقدمات حرب غزة».
واعتبر أن: «هبة شباب غزة، واقتحام عسقلان واسدود- المناطق التي هُجِّر منها آباؤهم في 1947 و1948- كان الرد على كل حروب التهجير، وعلى مخطط دفع مواطني غزة إلى سيناء، والخطة قائمة منذ أمد؛ فاليمين الصهيوني يقوم بالإسراع في تنفيذ ما تقوم به الدولة الاستيطانية، ولكن ببطء، ومراعاة للأوضاع القائمة والدولية».
وقال طاهر: «هدف الحرب طرد مواطني الضفة إلى الأردن الوطن البديل كتسميتهم، وطرد مواطني غزة إلى سيناء، والدعم الأمريكي، والتواطؤ الأوروبي ليس غائبًا، وتدرك الحكومات المطبعة، وبالأخص مصر والأردن خطورة التهجير على شعبهما وعلى كيانهما؛ فيرفضون، ولكن شعوبهم هي الأقدر على التصدي، كما أن الشعب الفلسطيني عصي على الكسر، والأقدر على إفشال التهجير الثالث وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه».
واعتبر أن «معركة فلسطين الحالية ستقرر مستقبل الاحتلال الاستيطاني، فإما أن تنكسر حرب الإبادة، ويسقط اليمين التوراتي، وتأخذ الأوضاع مسارًا آخر، أو تباد غزة، ويفرض التهجير، وتصبح إسرائيل مركز قيادة المنطقة كلها، ويسود التهويد، ويعم التطبيع، ولا بد أن ندرك أن القيادة اليمينية هاربة إلى الحرب، لا استجابة لاعتقاداتها الصهيونية فحسب، وإنما أيضًا بسبب من رفض الإسرائيليين لها، وعجزها عن الإجابة على أسئلة الاحتلال الاستيطاني، ونظام الفصل العنصري، وهروب رئيسها من المحاكمة، والتهديد بالسجن».
وخلص عبدالباري طاهر، إلى أن «الرهان الكبير على صمود شعب فلسطين، وتحرك الأمة العربية لنجدة فلسطين».

نصر كبير

أما رئيس مركز مسارات للاستراتيجيا والإعلام، الصحافي والمحلل السياسي، باسم الشعبي، فيرى أن ما يحدث في غزة هو إجرام لم يسبق له مثيل، لكنه يؤكد أن ذلك لن يزيد الشعب الفلسطيني إلا صمودًا وتمسكًا بأرضه.
وقال الشعبي لـ «القدس العربي»: «ما تشهده الأراضي الفلسطينية اليوم هي عملية انتقام وحشية يقوم بها الكيان الصهيوني ضد المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء غزة، لكن هذا لن يزيد الشعب الفلسطيني إلا صمودًا وتمسكًا بأرضه، ولن يزيد المقاومة إلا قوة وصلابة في مواصلة عملية طوفان الأقصى، التي حققت نجاحًا كبيرًا لم يتوقعها الكيان الصهيوني، ومن يقف خلفه من دول ودوائر خارجية. لقد أربكت طوفان الأقصى حسابات إسرائيل ووضعتها في موقف صعب جدا يهددها أمنيًا ووجوديًا لأول مرة منذ خمسة وسبعين عاما».
وتابع: «أما بالنسبة للموقف الأوروبي والأمريكي الرسمي فهو واضح لا يحتاج إلى رتوش؛ إذ أنه يقف داعمًا لجرائم إسرائيل الوحشية في غزة واستمرار محاصرتها للقطاع واثنين مليون مواطن قطعت عنهم المياه والكهرباء والطعام والدواء؛ إنه سقوط أخلاقي أمريكي وأوروبي على المستوى الحكومي والرسمي، أما الشعوب فهناك تعاطف كبير مع غزة وأطفال غزة، ولقد رأينا المظاهرات الحاشدة في لندن وباريس ونيويورك المنددة والمستنكرة لما يحدث في غزة من قتل وإجرام، وأتوقع أن تزداد هذه الاحتجاجات خلال الأيام المقبلة».
وأردف الشعبي: «معركة طوفان الأقصى لن تتوقف إلا بتحقيق نصر كبير للمقاومة والشعب الفلسطيني، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، وسيكون لها انعكاسات خطيرة على الكيان الغاصب وعلى المستوطنين، وعلى مواطني إسرائيل ـ الذين يعولون على المعادلة الأمنية من أجل البقاء، لكن حينما يفقدون الأمن سوف يبدأون بالتفكير الجدي بالرحيل من أرض فلسطين المحتلة، وهذا ما يحدث الآن وسوف يحدث في قادم الأيام بصورة أكبر». وأدان «قصف مستشفى المعمداني بغزة وقتل وجرح المئات من المرضى والجرحى والطواقم الطبية في جريمة غير مسبوقة».
عمر بن هلابي، رئيس التكتل الموحد للإعلاميين والصحافيين ونشطاء المحافظات الشرقية اعتبر «ما هو حاصل في فلسطين وقطاع غزة بشكل خاص مأساة بكل ما للكلمة من معنى في ظل الغارات الإسرائيلية الهمجية والوحشية وما قابلها من انحطاط في مواقف الأنظمة العربية والإسلامية التي تخلت عن ثوابت الأمة وقيمها».
وقال لـ «القدس العربي»: «ما يحصل في فلسطين بقدر ما فيه من نزيف فهو يسطر أروع صور القوة، التي يتحلى بها المقاوم الفلسطيني، الذي لم يستطع أن يتحمل التخاذل والتهميش ومحاولات طمس قضية بلده من على الخريطة لاسيما بعد أن ظل محاصرا في غزة لنحو 16 سنة؛ فكان لابد أن يتحرك أحرار فلسطين للرد على همجية ووحشية الاحتلال ومحاولات تهميش قضيته؛ فكانت عملية طوفان الأقصى، التي اعتبرها تكرارا لمعركة العبور التي سطرها العرب عام 1973، والتي غيّرت المعادلة بين العرب وإسرائيل. لقد غيرت معركة العبور الغزاوية المعادلة بين فلسطين وإسرائيل، وكسرت قواعد التميز، التي كان يتباهى بها الجيش الإسرائيلي، وهي معركة ستستمر حتى ينتزع الفلسطينيون كامل حقوقهم آجلا أو عاجلا».
وأردف: «هذه الخطوة الاستباقية قد قلبت الطاولة على المتصهينين العرب وعلى المخططات الامريكية، التي وصلت إلى درجة تصفية القضية الفلسطينية، لكن هذه القضية بفضل هذه العملية تُبعث من جديد كمارد من تحت الرماد، وتعود القضية إلى تصدر المشهد، وعلى الذين تصدروا المشهد لطمسها التراجع إلى القواعد الخلفية؛ لأن من سيحدد مصير الصراع في فلسطين هم الفلسطينيون أنفسهم. بعد هذه المعركة لن يكون كما قبله».

أحمد الأغبري
القدس العربي

Left Menu Icon
الرئيسية