تم النشر بتاريخ 29 يناير, 2023
يعد فن العمارة الجنوبية أحد جوانب التعبير عن الهوية الجنوبية، فهو المكون المادي للثقافة، والبصمة المميزة التي تؤكد الانتماء الجنوبي، والصورة التي تصرخ أنا جنوبي و أنتمي إلى هنا.
الفن المعماري الجنوبي يعبر عن ذوق الجنوبي ويعكس مدنيّته وتحضره، واستغلاله لموارده في بناء حضارته وتشييد عمرانها في أجمل وأبهى صورة، دون إخلالٍ بالجانب الوظيفي لهذه المنشآت.
إن صهاريج عدن والقلاع والحصون والقصور والمساجد نماذج حية لمهارة الجنوبي وتفرده في الهندسة المعمارية، فما زالت قلعة صيرة في عدن، وحصنا الرناد والغويزي في حضرموت، وحصون المهرة شاهدة على ذلك.
وقصر البراق في عدن، وقصر دار الحكم ودار الحجر والروضة في لحج، وقصرا الكثيري والقعيطي في حضرموت، وقصر بن عفرار في المهرة، تشكل تحفًا فنية خالدة، أضف إلى ذلك منارة المحضار؛ التي تعتبر أطول منارة في العالم، وقد شيدت من الطين.
والجنوبي ابن بيئته، فكانت منازله ومنشآته منها وإليها، فنجد من سكن المناطق الجبلية قد استعان بالحجر، فكانت بناياته شامخة ومتراصة إقتصادًا وتلاحمًا، وأما من سكن الأراضي الزراعية فقد اختار الطين والماء ليشيد بيوته، فجاءت منبسطة رحبة، ومنفتحة على الطبيعة.
وكان الخشب عاملا مشتركًا، فكانت الأبواب والنوافذ والسقوف جزءًا من تشكيل الهوية العمرانية.
يميل الجنوبيون إلى السقوف العالية والنوافذ الكثيرة؛ لضمان التهوية الجيدة، وقد تجد السقوف الخشبية المصنوع أغلبها من جذوع الشجر، والتي تحكي قصص الأجداد، وتحمي أهل البيت وتظللهم كما الأرواح الطيبة. وفي المناطق الجبلية ستجد السقوف المصنوعة من صفائح الحجر التي تثير الإعجاب في إتقان صنعها.
أما النوافذ تأخذ شكل المستطيل المركب طولًا عادة، وتنقسم النوافذ إلى قسمين أو ثلاثة؛ قسم له درفات تنفتح على الخارج، أما القسم الثاني فهو عادة يمثل مشربيات خشبية ومن خلالها تَرى النساء ولا تُرى. والقسم الثالث وهو عادة من زجاج إما أن يكون في شكل نصف دائرة – وهو جزء ثابت- أو مستطيل الشكل قابلًا للفتح، وهذا القسم يؤمن دخول الضوء للبيوت.
تمتاز أيضا البيوت الجنوبية بالكوى العالية، التي تساعد في تأمين الضوء والهواء.
وفي عدن قد تجد الشبابيك الواسعة أو المشربيات تأخذ حيّزًا واسعًا من جدار البيت، وهذا التقليد في الطراز العمراني فرضته عدة عوامل؛ منها تقارب المنازل الذي يستدعي إطلالات تؤمن الخصوصية والهواء والضوء، والعامل الثاني هو الرغبة في الحصول على إطلالات على البحر ومغازلة هوائه المنعش. وثالثًا الجمال الذي ينشده أصحاب هذه المنازل التي يضفي وجودها عراقة وأصالة وجمالًا للمنظر العام لهذه المباني .
وللثقافات الأخرى أثرها في الطراز المعماري الجنوبي، وهذا يؤكد على تمازج الثقافات وتنوعها في جنوبنا، وهذا التأثير يضيف إلى الفن العمراني دون أن يطمس الهوية الجنوبية.
وكلما اتجهت إلى الداخل في الخريطة الجنوبية، وجدت البيوت المنبسطة التي تتميز بفناءاتها الواسعة المشكوفة للشمس والمنفتحة على السماء، وقد تجد نقوش النورة التي تزين الجدران على طريقة نوبيي مصر .
وإذا تعمقت في سيرك نحو جبال يافع مثلًا، فسترى من جمال العمران ما يصعب وصفه. البيوت الحجرية الشامخة ذات الطراز المميز، الذي يقول للقادم من بعيد؛ هنا يافع.
أما إذا اتجهت شرقًا مرورًا بحّبان فسترى من الجمال ما يأخذ لُبّك ويسعد ناظرك، فيرتد إليك راضيًا مرضيًا. وإذا تعمقت شرقًا إلى شبام فستجد من عجائب الدنيا تلك المباني الشاهقة من بيوت الطين، وستتساءل كيف للطين أن يبلغ عنان السماء ويناطح السحاب؟!
وعلى اختلاف أشكال العمران وتنوعه في جنوبنا، يظل يربطه ذلك الخيط الذي يوثق انتماءه لجغرافيا واحدة، وجذور واحدة، وثقافة واحدة، خيط سحري، قد يكون مرئيًا من خلال بعض تفاصيل العمارة المشتركة، وغير مرئي تستشعره من خلال النظر إلى هذا العمران فلا تراه ولكن تسمع صداه؛ أنا جنوبي!
صوفيا الهدار
نائب رئيس تحرير مجلة فنار عدن الثقافية
المقال نقلا عن المجلة العدد الخامس عشر